والمخبول الذي يعيش بشخصية مزدوجة، وليست كلها نموذجاً واحداً من الطبائع البشرية، لأنها تختلف في إعطائها وإخراجها أبعد اختلاف يقع بين إنسان وإنسان.
هذه القدرة قليلة عندنا إلى الآن، وعلتها أن الطراز العام هو الذي يفهمه عامة النظارة والمتفرجين، ولابد للنجاح في الأدوار الخاصة من إدراك واسع لمناحي النفس البشرية وأطوار الشخصيات المختلفة، يحبب هؤلاء النظارة والمتفرجين في تمثيل هذه الشخصيات إذا عرضت عليهم، لأنهم يشعرون بما فيها من متعة الفوارق الدقيقة بين طبائع الإنسان، وليس في طاقة الممثل أن يتفرغ لإحياء (شخصية) خاصة تكلفه الجهد واليقظة والدراسة الفنية والعلمية إذا كان قصارى الأمر أنه (كله عند العرب صابون). وغن المتفرج يقنع بما دون هذا الجهد، وقد يفضل الجهد اليسير على الجهد الكثير.
هذه الآفة في التمثيل هي بعينها آفة فن الغناء.
فإنك تستطيع أن تسمع ألف أغنية فلا ترى فيها ملامح الشخصية المختلفة، ولا تلمس فيها دقة التفصيل والتنويع، لأن التصنع فيها أبرز من الإحساس الأصيل.
وهي آفة لا يلام عليها فن التمثيل المصري على انفراد، لأنها آفة المجتمع المصري لم يخرج لنا بعد جمهوراً كاملاً لتلك الفرقة، إذا وجدت على تمامها أو تم فيها التعدد والتجانس بين جميع الأدوار.
فليس عندنا الآن جمهور كامل (مواظب) لغير نوع واحد من المسرحيات، وهو نوع التهريج والمجون وإثارة الحس بمناظر الشهوات ومناظر الشجار.
أما الفن الرفيع فله جمهور متفرق أو أشتات من جماهير عدة، لا يستقل واحد منها بإنهاض فن متقدم يثبت على قدميه.
وينتهي بنا ذلك كله إلى نتيجة واحدة: وهي أن التمثيل المصري في حاجة إلى معونة دائمة من الحكومة، ومعونة دائمة من الموسرين الغيورين على هذا الفن الجميل، لأن التمثيل في العالم كله - وفي مصر خاصة - يعبر محنته الكبرى مع الفتنة الطاغية من قبل الصور المتحركة، ولكنه هو الفن الباقي بعد هذه الفتنة وهو الينبوع الذي ينبغي أن يعتمد عليه فن الستار الأبيض، ولا تؤمن عليه العاقبة إذا ترك وحده بغير معونة وتشجيع.