للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كان ذكي القلب، هميز الفؤاد، قوي الذاكرة؛ فساعدته هذه المواهب على الإقبال على طلب العلم في صغره، فحفظ القرآن وتعلم الفرائض، وتوفر على دراسة العربية، وبرع في حفظ الروايات والأخبار، حتى أن الدارقطني روى عنه (أنه أتى عبد الله بن داود بن عامر الهمداني الخربي وهو صغير ليحدثه فقال له: نحفظ القرآن؟ فقال: قد حفظته. قال: تعلم الفرائض؟ قال: قد حذفتها. قال: فتعلم العربية؟ قال: تعلمت منها ما فيه كفاية، فامتحنه في كل ذلك فأجاد. فقال لو كنت محدثاً أحداً في سنك لحدثتك)

وهذه القصة قد رواها الخطيب في تاريخه بأطول من هذا وأوضح (ص ١٧٢ ج٣) وهي إن دلت على شيء فأول ما تدل عليه تصوير صادق لاستعداد أبي العيناء الفطري الذي يؤهله لسماع الحديث وروايته، لولا صغر سنه وحداثته. ولئن ضن الخريبي على الفتى بتحديثه صغيراً فإنه لم يعدم وسيلة للتشجيع؛ إذ وجد متنفساً لرغبته، وإرضاء لنهمه في كتابة الحديث وطلب الأدب لدى أبي سعيد الأصمعي، وأبي عبيدة معمر بن المثتى، وأبي زيد الأنصاري، ومحمد بن عبد الله العتبي، وأبي عاصم النبيل، الذين كان لهم اكبر الأثر في توجيه حياته العلمية.

وفي عهد طلبه للعلم على أبي زيد الأنصاري لحقت به كنيته المشهورة (أبو العيناء)، فقد سأله رجل: (كيف كنيت أبا العيناء؟ قال: قلت لأبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري: كيف تصغر عيناً؟ فقال: عيينا يا أبا العيناء فلحقت بي منذ ذاك)

وقد لاحظت - بعد طول البحث والتنقيب - أنه كان منصرفاً إلى العلم الانصراف كله قبل أن يجاوز الأربعين من عمره فلم يحاول الاتصال بالخلفاء والأمراء، ولم يتكسب بالشعر والرواية كما كان يتكسب في عصره أمثاله من الرواة والشعراء. فكن واثقاً أنك لن تقرأ له خبراً واحداً أو نادرة واحدة تتصل بقصر الخلافة؛ لا في أواخر عهد المأمون ولا في شيء من عهد المعتصم. ولم يكن ليحول دون ذلك سكناه بالبصرة؛ فقد كان في مكنته أن يغادرها حين يشاء إلى دار الخلافة عن طواعية واختيار؛ بيد أن انتظر الأقدار حتى أخرجته من منشئه إخراجا، يوم نكب نكبة في أواخر أيام الواثق فحمل على أثرها غليه، فاتصل عفواً بابن أبي دؤاد الذي كان له نفوذ في الدولة كبير. روى أبو العيناء عن نفسه قال: (كنت في أيام الواثق مقيماً بالبصرة، فكنت يوماً في الوراقين بها إذ رأيت منادياً مغفلاً في يده

<<  <  ج:
ص:  >  >>