مصحف مخلق الأداة فقلت له: ناد عليه بالبراءة ومما فيه - وأنا أعني به أداته - فاقبل المنادي ينادي بذلك. فاجتمع أهل السوق والمارة على المنادي وقالوا له: يا عدو الله! تنادى على مصحف بالبراءة مما فيه؟ وأوقعوا به. فقال لهم: ذلك الرجل القاعد أمرني بذلك. فتركوا المنادي وأقبلوا إلي وتجمعوا علي ورفعوني إلى الوالي وعملوا علي محضراً، وكتب في أمري إلى السلطان. فأمر بحملي فحملت مستوثقاً مني. واتصل خبري بأبي عبد الله بن أبي دؤاد، فتكفل بأمري والفحص عما قرفت به، وأخذني غليه ففك وثاقي؛ وتجمعت العامة وبالغوا في التشنيع علي، ومتابعة رفع القصص في أمري، فقلت لأبن أبي دؤاد: قد كثر تجمع هؤلاء الهمج علي وهم كثير. فقال:(كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله). فقلت: قد بالغوا في التشنيع علي فقال: (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله). فقلت: إني على غاية الخوف من كيدهم، ولن يخرج أمري عن يدك. فقال:(لا تحزن إن الله معنا). فقلت: القاضي - اعزه الله - كما قال الصموت الكلابي:
لله درك - أي جنة خاف ... ومتاع دنيا - أنت للحدثان
متخمط يطأ الرجال بنعله ... وطأ الفنيق دوارج الروان
ويكبهم حتى كأن رؤوسهم ... مأمومة تنحط للغربان
ويفرج الباب الشديد رتاجه ... حتى يصير كأنه بابان
قال: يا غلام! للدواة والقرطاس. . . أكتب هذه الأبيات عن أبي عبد الله. فكتبت له، ولم يزل يتلطف في أمري حتى خلصني)
ولم يأسف على فراقه البصرة؛ (إذ وجد ماؤها أجاجاً، ووجدها تطيب في الوقت إلي تطيب فيه جهنم) كما وصفها للخليفة المتوكل لما سأله: ما تقول في البصرة يا أبا العيناء؟
لا، لم يأسف على فراغها لولا أن الشقاء هجم عليه، وان الدهر قسا عليه، فأخذ نور عينه!
يومئذ بكى على البصرة وضيائها، ونقم على بغداد وظلامها. يومئذ عرف قيمة البصر بعد أن فقد البصر!
ولكن الصولي - كما في تاريخ الخطيب - يحدثنا عن أبي العيناء حديثا ً لا يخلو من طرافة يصف به الباعث على رحيله عن البصرة، فإنه روى عنه انه قال: (سبب تحولي من البصرة أني رأيت غلاماً ينادي عليه بثلاثين ديناراً يساوي ثلاثمائة دينار فاشتريته.