وكنت أبني داراً فأعطيته عشرين ديناراً لينفقها على الصناع، فأنفق عشرة واشتري بعشرة ملبوساً له! فقلت: ما هذا! فقال: لا تعجل، فإن أرباب المروءة لا يعتبون على غلمانهم هذا. فقلت في نفسي: أنا اشتريت الأصمعي ولم أدر! ثم أردت أن أتزوج امرأة سراً من بنت عمي، فاستكتمته ودفعت إليه ديناراً يشتري به حوائج وسمكاً هازباً فاشترى غيره فغاظني. . . فقال رأيت بقراط يذم الهازبا! فقلت: يا ابن الفاعلة لم أعلم أني اشتريت جالينوس. . . فضربته عشر مقارع، فأخذني وضربني سبعاً. وقال: الأدب ثلاث يا مولاي، وإنما ضربناك سبعاً قصاصاً. فرميته فشججته، فذهب إلى بنت عمي وقال:(الدين النصيحة) و (من غشنا ليس منا) إن مولاي قد تزوج واستكتمني فقلت: لابد من تعريف مولاتي الخبر، فضربني وشجني! فمنعتني بنت عمي دخول الدار، وحللت ما بيني وبين ما فيها، وما زالت كذلك حتى طلقت المرأة. وسمته بنت عمي (الغلام الناصح)، فلم يمكني أن أكلمه فقلت: أعتق هذا وأستريح. . . فلما أعتقته لزمني وقال: الآن وجب حقك علي. ثم إنه أراد الحج فزودته، فغاب عشرين يوماً ورجع وقال: أقطع الطريق، ورأيت حقك قد وجب. ثم أراد الغزو فجهزته، فلما غاب بعت مالي بالبصرة وخرجت منها خوفاً أن يرجع).
وهذا الحديث الطريف نقله عن الخطيب ياقوت في (معجم الأدباء) وابن حجر في (لسان الميزان) على اختلاف في الألفاظ يعين، وهو - في جملته أو تفصيله - لا يعتبر تعليلاً لتحول أبي العيناء من البصرة كما هو الواقع ونفس الأمر، وإنما هو تعليل فتحوله منها كما شاء هو أن يصوره بأسلوب المتهكم، وعرضه الساخر، في رواية الأخبار.
وكنت أود أن أصل الكتابة بتحليل نفسية هذا الظريف ودراسة أطواره من خلال آثاره - بعد أن عرفت بمولده ونشأته، ومقامه وانتقاله - لولا أني وقفت أمام نص في معجم الأدباء، يدور حول عمي أبي العيناء، فدارت حوله في نفسي عوامل شتى من الشك والارتياب. يفيد هذا النص (أن جد أبي العيناء الأكبر كان يلقي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فأساء مرة المخاطبة بينه وبينه، فدعا عليه بالعمى - له ولولده من بعده - فكل من عمى من ولد أبي العيناء فهو صحيح النسب فيهم!).
لا أكتم القارئ الكريم أني ما إن قرأت هذه الرواية حتى شممت رائحة الوضع فيها، فقلت في نفسي: إنها لا تخرج عن أحد أمرين: إما أن راويها المعاصر لأبي العيناء المنافس له