يريد باختلاقها النيل منه والتعريض به؛ إذ كان له ولدان أبو جعفر وعبد الله، وكلاهما كان بصيراً غير أعمى؛ فهما إذاً دعيان لا يصح نسبهما من أبيهما - وفي هذا قذف صريح في أبي العيناء - وإما أن بعض العلويين المتشيعين الكارهين له الناقمين منه أذاعها بين الناس لا على سبيل المنافسة ولكن على سبيل العداء؛ إذ كانت تبدو منه أحياناً كلمات مقذعة في المتشيعين.
هذا ما جاء في نفسي بادئ الرأي. . إلا إن رواية شديدة الشبه بالنص السابق - في تاريخ الخطيب - قد أراحتني من الشك الطويل، وجعلتني من تغيير حكمي بسبيل، لألتمس الواقعة أي تعليل. يقول أبو العيناء نفسه في هذه الرواية الجديدة:(دعا المنصور جدي خلاداً - وكان مولاه - فقال له: أريدك لأمر قد همني وقد اخترتك له، وأنت عندي كما قال أبو ذؤيب الهلالي:
الكنى إليها وخبر الرسو - ل أعلمهم بنواحي الخير
فقال: أرجو أن أبلغ رضا أمير المؤمنين.
فقال: سر إلى المدينة على أنك من شيعة عبد الله بن حسن، وأبذل له الأموال واكتب إلي بأنفاسه وأخبار ولده. فأرضاه. ثم علم عبد الله حسن أنه أتى من قبله، فدعا عليه وعلى نسله بالعمى. قال أبو العيناء: فنحن نتوارث ذلك إلى الساعة).
فقد اتفقت هاتان الروايتان في تعليل عمي أبي العيناء، بدعاء مستجاب شق حجب السماء، وإن اختلفتا في شخص الداعي أهو علي بن أبي طالب أم عبد الله بن حسن؟ وفي شخص المدعو عليه أهو جد أبي العيناء الأكبر أم جده القريب خلاد؟
ونحن إذا سلمنا بأصل الفكرة المنتزعة من الروايتين نعود من جديد أمام أمرين: إما التصديق بهذه الواقعة - عمى أبي العيناء استجابة للدعاء - على أنها مصادفة تلاقت مع الواقع، وما أكثر ما يتلاقيان وإما اتهام هذا الظريف نفسه باختلاق القصة من أساسها وإذاعتها بين الراغبين في سماع أخباره العجيبة، ونوادره المبتكرة، فرواها هو بلفظ ورواه السامعون بلفظ آخر، وتداولتها الألسن لتكون دليلاً صريحاً على تمكن ملكة الكذب من نفسه، وسيطرتها على لسانه، فإني - كما سترى من قريب - ما عرفت لساناً أحب إليه الكذب من لسانه، ولا نفساً أرضى بما تختلق من نفسه!