وقد ترى غير ما رأيت، فتفرض أمراً ثالثاً وهو أن الرواية الأولى موضوعة، وأن الثانية على أبي العيناء مدسوسة. لولا أنك بهذا الغرض نتهم ياقوتاً الحموي بوضع ما لا غرض له في وضعه، ثم ترى الخطيب البغدادي بقلة تحريه وضبطه، مع أنه الحافظ المشهور الذي أجمع علماء الحديث ورجال الجرح والتعديل على قبول آثاره، ورواية أخباره.
وكيفما عللنا سبب عمى أبي العيناء، سنوافق على حوله قبل عماه، وسنؤيد المبرد في روايته عنه (أنه إذا صار أعمى بعد أن نيف على الأربعين وخرج من البصرة واعتلت عيناه فرمى فيهما بما رمى. ثم يستدل المبرد على ذلك بقوله: والدليل على ذلك قول أبي علي البصير.
قد كنت خفت يد الزما - ن عليك إذ ذهب البصر
ولم أدر أنك بالعمى ... تغنى ويفتر البشر!
والخطيب في تاريخه روى هذين البيتين بضمير المتكلم لجمع (كنا نخاف من الزمان. . الخ البيت الأول. لم ندر أنك الخ البيت الثاني) ونسبهما إلى أحمد بن أبي طاهر وهما - على كل حال - علامة تستأنس بها في ان عمى أبي العيناء كان طارئاً في كبره، ولم يكن في الولادة ولا في صغره. ويؤيد هذا محاورة ابن أبي دؤاد لأبي العيناء يوم سأله:(ما أشد ما أصابك في ذهاب بصرك؟ قال خلتان، يبدؤني قومي بالسلام، وكنت أحب أن أبتدئهم، وإني بما حدثت للعرض عني وكنت أحب أن أعرف ذلك فأقطع عنه حديثي! قال أين أبي دؤاد: أما من أبتدأك بالسلام فقد كافأته بحسن النية؛ وأما من أعرض عن حديثك فما أكسب نفسه من سوء الأدب أكثر مما وصل إليك من سوء اجتماعه!)
ويزيدني اطمئناناً بصحة ما ذهبت إليه أن ليس لدينا دليل واحد على أن أبا العيناء عمى قبل الأربعين - فضلاً عن أنه ولد أعمى. والخطيب وابن حجر - وإن كانا قد أوردا خبر عمله بصيغة التمريض - إلا إنهما لم يحددا زمناً لعماه قبل هذه السن ولا بعدها. ثم إنه ليس ضرورياً أن تفهم من عبارة أبي العيناء في رواية الخطيب (نحن نتوارث ذلك - أي المعنى - إلى الساعة) أن كل من تناسل من هذه الأسرة يقضي عليه قانون هذه الوراثة بأن يولد أعمى، فإن الوراثة - كما يصح أن تكون مباشرة - يمكن أن تفعل فعلها بعد زمن يطول أو يقصر: فلنا إذا أن نطمئن إلى رواية المبرد - في هذا الموضوع - ثم لنا أن