ثم نعود إلى الإجابة على ما قدمنا من أمثلة فنقول: إن ثلاثة أمور عظيمة هي التي دفعت بهذه العشائر إلى أتون الحرب، ليس منها يقينهم بنبوات أصحابهم، أولها ما جاء به أولئك المتنبئون من وضع كثير من أوامر الدين عن أقوامهم، فقد رووا أن مسيلمة وضع عن قومه الصلاة، وأحل لهم الخمر والزنا. وفي القصة الموضوعة التي تصور لنا ما حدث بينه وبين سجاح التميمية أنه أصدقها بأن وضع عن قومها صلاتين مما جاء به محمد. والرواة يحدثوننا أن بني تميم لا يصلون صلاة الفجر ولا صلاة العشاء الآخرة لأنهما مهر فتاتهم. ويروى عن طليحة أنه كان يقول لقومه: إن الله ما يصنع بتعفير وجوهكم، وتقبيح أدباركم شيئاً، اذكروا الله، واعبدوه قياماً. على أن أهم ما في هذا الأمر أن المتنبئين أعفوا أتباعهم من الزكاة، وهي السبب الأصيل الذي أدى إلى ارتداد العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وثانيهما تلك العصبية الجامحة التي كانت لا تزال تحتل نفوس العرب، والتي تصورها لنا كلماتهم؛ فقد رووا أن طلحة النمري جاء اليمامة فقال: أين مسيلمة؟ قالوا: مع رسول الله. فقال: لا، حتى أراه، فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال نعم. قال: من يأتيك؟ قال: رحمن. قال في نور أو في ظلمة؟ قال في ظلمة، قال طلحة: أشهد أنك كذاب، وأن محمداً صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر. ثم بقى مع مسيلمة حتى قتل في موقعة عقرباء (كما في ابن الأثير)، كما روى أن عينة بن حصن لما أتى طليحة، وكان بين غطفان وأسد حلف في الجاهلية قام وقال: إني لمجدد الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة، والله لأن نتبع نبياً من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع نبياً من قريش. على أن عيينة هذا، لم يدخل الإيمان قلبه - ولعل كل الذين ناصروا المتنبئين من سادات العرب كانوا كذلك - فقد روى أن عيينة لما أسر وطيف به المدينة وهو مكتوف جعل الصبيان يقولون: يا عدو الله! كفرت بعد إيمانك؟ فيقول: والله ما آمنت بالله طرفة عين. وهذه العصبية تفسر لنا تفسيراً واضحاً موقف كل متنبئ من عشيرته، فإن كانت العصبية قوية كثر أتباعه، وإن كانت ضعيفة قل هؤلاء التباع. ومن المشهور في التاريخ أن ربيعة كانت شديدة الحسد للمضريين لما ظهر النبي منهم، حتى قال المأمون (لم تزل ربيعة غضاباً على الله منذ أرسل نبيه من مضر) وهذا يفسر لنا كثرة أتباع مسيلمة، وشدة صبرهم على قتال المسلمين.