فكيف - أذن - استطاع هؤلاء المتنبئون أن يسخروا أقوامهم في حروب دامية مع جيوش المسلمين! وكيف استطاع مسيلمة - مثلاً - أن يحشد أربعين ألفاً يقاتلون قتالاً لا هوادة فيه ولا رفق، حتى يقول فيهم بطل المسلمين خالد بن الوليد: شهدت عشرين زحفاً فلم أر قوماً أصبر لوقع السيوف ولا أضرب بها ولا أثبت أقداماً من بني حنيفة يوم اليمامة. وحتى يقول فيهم رافع بن خديج: خرجنا ونحن أربعة آلاف، فانتهينا إلى اليمامة فتنتهي إلى قوم هم الذين قال الله فيهم (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد). ولماذا صبر هؤلاء حتى دوخوا المسلمين، وقتلوا منهم ألفاً وثمانمائة، وضحوا من رجالهم بعشرين ألفاً؟ ليس السر قطعاً لصديقهم بنبوة صاحبهم، فما كانوا يحاربون في سبيل الدين، وقد كانوا - أو على الأقل كثير منهم - على يقين من كذب هذا الإدعاء. على أن هذا لم يكن شأن مسيلمة وقومه وحدهم، وإن كان أكثر المتنبئين إتباعاً - ولذلك سبب نحن ذاكروه متى انتهى بنا الكلام إليه - فقد كان وراء طليحة الأسدي نحو السبعمائة رجل! وقبل أن نجيب عن هذه الأسئلة نحب أن نذكر أن حركة التنبؤ تأخرت كثيراً، ولم تظهر إلا في أخريات حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما ظهر بعد وفاته. وقد طال نظري في هذا الأمر، ثم وجدت في مقدمة ابن خلدون ما يصح تعليلاً، قال بعد أن تحدث عن النبوة والكهانة، وانقطاع الكهانة في عهد النبوة (فإنما كان ذلك الانقطاع بين يدي النبوة فقط، ولعلها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه، وهذا هو الظاهر، لأن هذه المدارك كلها تخمد في زمن النبوة كما تخمد الكواكب والسرج عند وجود الشمس، لأن النبوة هي النور الأعظم الذي يخفي معه كل نور ويذهب) وهذا ولا شك تعليل نفسي جميل، فإن النبوة بقوة سطوعها في النفس تخمد فيها كل حركة توحي بها الشياطين، وتشعر النفوس معها بأنها مضروب عليها من كل نواحيها، فلا تفكر في باطل - من هذا النوع - ولا تأتيه، ولكن هذا التعليل - مع ذلك - ليس كل الحق في موضوعنا، فأني لأرى أن تأخر ظهور المتنبئين كان مرجعه إلى أن العرب تركوا قريشاً تنازل النبي، وتصطدم به، وكانوا هم على هامش المعركة، فلما كان عام الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ورأى الأعراب أن الدعوة المحمدية قد مكن لها بدأوا يفكرون في طريق يعاندون بها هذه النبوة التي ظهرت، وكانت هناك أسباب أدت إلى ظهور حركة التنبؤ في أواخر أيامه صلى الله عليه وسلم.