رعايتك سواي. . . ولما اعترضت على ذلك أجابوني بأن القانون لا يسمح لأمثالي بالتجنيد. . وكان بينهم رجل وقور الشيبة، جليل الهيبة، رأف بحالي وتقدم نحوي وهو يقول: لا تحزن يا بني، إن خدمة والدتك نوع من خدمة بلادك. وقد ظن أنه بذلك يستطيع تعزيتي وتبديد خجلتي، وأنا أنظر إلى رفاق طفولتي في المدرسة ولداني في المعمل وهم يرتدون البزات العسكرية. . لست أنكر أنني وحيدك، ولكن أما كان الأجمل لك والأجدر بي، أن أكون مدافعاً ومانعاً ضيم العدو لنا واستعباده لبلادنا فينصرف كيفما شاء بأرضنا ومالنا ونسائنا؟!. .
لا يمكن أن أتصور يا أماه شماتة الناي بي، ونفورهم مني وهم يشيرون إلي بسخرية قائلين: هذا الذي تخلف عن خدمة بلاده والذود عن حياضها. . يا لسقوط همته، ويا عالته على أمته! لئن تطوني الأرض بين طياتها، أحب إلي من سخريات الناس وشماتتهم. وإني لأشعر في أعماق قلبي العزم، وفي غليان دمائي البأس، يدفعانني لأن أحيا لبلادي وأموت لبلادي، وأن أحظى بشرف الجندية، حيث يشرفك هذا يا أماه! وتشرف بلادنا بالعزة والكرامة فتقضي على مطامع أعدائها. . .
كانت أمه ما تنفك حديثه تنقل طرفها الوامق بين شفتيه ووجهه الحزين، وقد أخذت رأسه بين يديها وراحت تواسيه:
- نعم ما قال هذا الرجل العطوف النصوح يا بني: أن خدمة والدتك نوع من خدمة أمتك؛ ولكن هل هناك مانع من أن تقوم والدتك بخدمة بلادك؟؟. . .
فرفع بصره إليها، ليعي ما تقول. . ولكنها راحت تتابع حديثها، متجاهلة دهشته ونظرات عينيه المستفهمة، وكأنها مصممة على أمر ما، وأناملها ما تزال تعبث بخصلات شعره الجميل؛ ثق يا بني بأنك ستكون في خدمة بلادك وستتقدم رفاقك. . . ولكن قل لي: ألست بجائع؟ أجل! أنت جائع، لاشك أنك جائع!!. .
وانفلتت نحو صوان الأكل؛ فشيعها بنظرات الوامق البار، وهي تسير بخطوات وئيدة رزينة مولية له ظهرها، ولمعت لعينيه شعرات الشيب كأسلاك من النور الساطع عندما ضاحكتها رقصات ألسنة اللهيب من الموقد وحطت على عقصة شعرها الملتفة: يا لي من أحمق! كيف لم ألحظها من قبل؟ هكذا قال لنفسه، وقد ارتد رأسه إلى راحتيه، وساورته