خطب موتيخ، وما كان فيهما من تأخير الحرب عاماً كاملا. ولكن هذا كله غدا في التاريخ، وانطوى في الحقب، وتحدث عنه الناس فأكثروا، ووصفه الكاتبون الغربيون فأسهبوا. ولعل لي رجعة إليه حين يحلو الكلام فيه.
أما الآن، وقد هدأ غبار المعركة الصاخبة، وسكنت ثورة العاصفة الجامحة، فقد أحببت أن أعود من جديد إلى هذا البلد القديم لأرى القوم في حال غير الحال ودنيا غير الدنيا.
ولن يكون السفر عن سبيل سفارة ألمانية وقنصلية جرمانية، فقد تولى الحلفاء الأربعة في كل عاصمة منح الإذن لمن له أن يطلب المرور. وفي باريس على مقربة من ساحة (التروكاديرو) شارع ضيق طويل على البناء الأوسط كتابة عريضة تعلن عن موقع (مصلحة الأمور الألمانية والنمساوية). فإذا دخلت فسترى الضابط الإنكليزي والأمريكي والفرنسي يتجاورون في غرفة واحدة ويتحاورون في لغة واحدة، تنتقل من مكتب إلى مكتب، وأنت تتقلب بين شارات ونجوم فلا تجد أثراً للسلطة الرابعة، لأنك تستطيع أن تقصد إلى أية منطقة إلا البلد الحرام؛ حيث ركز الروس أعلامهم، وبسط السوفيت ظلالهم. فإذا كنت تلح في الزيارة فاذهب إلى برلين وهناك تستشير من بيدهم الحل، فيمنحون الأذن أو يحرمون. .
يا لله ما أعجب الدنيا تتبدل في أعوام عشرة فكأنها ما كانت، وتتغير في سنين فكأنها ما وجدت، يزورها المرء وهي بستان جامع وهضاب نضرة وبلدان عامرة ثم يعود إليها فإذا هي جرداء قاتمة وأكوام من أحجار حتى ليخيل إليه أنه يزور بلاداً أصابتها الزلازل، أو انهارت عليها البراكين، أو تقادمت عليها القرون ومسحت عليها العصور، فيحسب أنه يزور مدينة أثرية يتلمس في جنباتها التاريخ ويقرأ من خرائبها العبر. ذلك أول شعور يمس المرء حين يجتاز نهر (الراين)، ويعبر الحدود. بل لعله وهو ينتقل في قطار فخم من ربوع الألزاس يكذب الخارطة بين يديه ويتهم نفسه بالجهل بالجغرافية فلا المعالم معالم ولا الحدود حدود.
واستقبلنا على الحدود جنود ألمانيون في لباس نازي قديم بال لأنهم لا يملكون سواه، وأقبلوا يفتشون الحقائب، فما ينفكون يفتحونها ويغلقونها، فيفتحون عيونهم للمنظر الجميل من مأكل لم يعرفوا طعمه منذ حين، ولباس لم يعرفوا لمسه منذ أمد، ثم يطبقون العيون على قذى