ويشكرون للمسافر، ويحيلونه إلى السلطة المحتلة، فتوزعه السلطة في قطار من القطرات. ولن يشكو المسافر من القطار الذي يحمله والثمن الذي يدفعه، فله الدرجة الأولى والثانية، يمرح فيهما كما يشاء. وفي الثالثة سكان البلاد يتكدسون وقوفاً، ويتعلقون بأطراف القطر وسلالمها، كما يتعلق غلمان القاهرة بأطراف حافلات الترام سواء بسواء. وسيعجب الأجنبي للألماني كيف يحيا اليوم، فهو يقتطع الخبز الأسود الكبير لقمة بعد لقمة هي كل غذائه الذي رأيته في يومين اثنين من رحيل القطار، ويرى مناظر لا تصدقها عيناه. هذه امرأة مرضع نامت على جدار القطار وهي تحتضن وليدها، وهذا شيخ سكت رفاقه عن استبداده في الجلوس بالممر فنام جالساً؛ وهذا شاب بلغ المحطة التي إليها يقصد وهو يعرف أنه بلغها لكن القوة خانته والجوع خذله فما له حيلة في قيام ولا قعود، فآثر البقاء، وما ينتظر القطار الجياع!. . .
أما أنا فقد تعبت من مشاهد البشر، وعدت إلى مكاني من العربة أتعلق بالطبيعة فهي أم رءوم وحسناء وفية، أمتع النظر بالغابة السوداء ونحن نجتازها، نمر بين صفوف من أشجار كثيفة عالية، وقد شق القطار طريقه بينها، متلوياً في سحر لا ينسى وفتنة لا تزول، هي كل زاد المسافر في ألمانيا اليوم.
فلما أظلم الليل انتشلني النوم انتشالاً وما أيقظني إلا صوت هذه الجموع الغفيرة في المحطات، فظننت أنه العيد، فنحن يوم أحد، وقد عرفت الألمانيين من قبل يعدون للأعياد عدتها وللآحاد فرصتها، فهم يرحلون من قرية إلى قرية لا يستقرون ولا يقبعون، يتنقلون في جمال الطبيعة، يقطفون ثمرة الأسبوع، ينتجعون مواقع الزهر والعطر، والجبل المشرف، والنهر المغنى، ولكن رفيقي في السفر أفهمني أن الألماني يسافر إلى الريف يوم الأحد من كل أسبوع في اصطياد البطاطس وانتشالها من التراب، فالأرض أمٌّ لا تؤمن بمذهب، ولا تدين بسياسة، والبطاطس بعض الغذاء قبل الحرب وكل الغذاء بعد النكبة؛ فلا بأس في أن يعد الألماني أكياساً واسعة يجمع فيها كل ما تصل إليه يده في السوق السوداء طعاماً لأسبوعه.
بلغنا محطة توبينكن، فنزلت بين هذه الجموع المتراصة التي كانت تراقب القطار منذ الليل، فأخذت سبيلي في يسر غريب؛ ذلك لأن للأجنبي سبيلاً غير سبيل المواطن. غير أن