ويتشرب روح المؤلف ويتقمص شخصيته ثم يأخذ بعد ذلك في التعريب. قال أحمد لطفي السيد باشا:(ولفتحي باشا في تعريبه شخصية تامة ممتازة في طريقته وفي أسلوبه البياني. أما نحوه في التعريب فليس هو الالتزام الحرفي للأصل، ولا المجافاة للأصل، ولكن نحوه بين ذلك وسط مرض. وأما أسلوبه فهو عربي خالص لا يعني فيه بفضلة الزخرف والمحسنات اللفظية، ولكنه مع ذلك متين الرصف ظاهر الرشاقة جذاب جداً).
أما شخصية فتحي باشا فكانت شخصية العالم؛ فالهدوء والرزانة، والإخلاص للعمل، وأداء الواجب قبل كل شيء، والابتعاد عن مجال الضجيج والصخب. كل هذه كانت صفاته الظاهرة، حتى أنه لم يكن يرى في ميدان الحياة العامة إلا قاصداً لعيادة مريض، أو مواساة رفيق، أو متوجهاً لرد زيارة، أو مشاهداً لحفلة أنس لا بأس أن يجد فيها شيئاً من الرفاهية، وما عدا ذلك فكل وقته بين الدفاتر والقماطر، والتحرير والتحبير، كأنه كان يتعجل إنجاز مهمته قبل أن تعجله المنية. قال صديقه أحمد لطفي السيد باشا فيما رواه عنه:
(ما أنس لا أنس إذ دخلت إلى فتحي باشا في داره بهليو بوليس في يوم حر ذي لوافح محرقات. دخلت إليه وقت الهاجرة فوجدته على مكتبه، وأمامه أوراقه منثورة، وكتبه مفتوحة، يقرأ ويراجع، ويعرب ويكتب، كذلك دأبه لا ينقطع عند خلوه من عمله الرسمي إلى عمل واحد بعينه، كأن عادته في العدل بين الناس جعلته يعدل في تقسيم فراغه بين المقاصد العلمية المختلفة. أو كأنه يجد في الانتقال من عمل إلى عمل راحة وتنشيطاً. فقلت له: أتلك هي رياضتك في الإجازة وراحتك في حمارة القيظ؟ فقال وهو يبتسم: نعم هذه رياضتي. فخلفته فيما يظنه رياضة، ويتخيله سعادة، وخرجت أحمد الله على أن منا من ينفق صحته وملكاته ووقته في سبيل العالم).
هكذا عاش أحمد فتحي زغلول باشا للعلم، وفي سبيله أنفق صحته ووقته وجهده، وفي عام ١٩١٣ م أدرك أهل الفضل مدى ما أدى الرجل في هذه السبيل من مآثر ومفاخر، فأقاموا له حفلة تكريم خطب فيها أعلام القانون والبيان فأشادوا بأياديه وجهوده في خدمة التشريع والعلم، وكم كان الأسف بالغاً إذ لم تمض على ذلك شهور اختاره الله إلى جواره في ٢٧ مارس سنة ١٩١٤، فكان الذين اجتمعوا لتكريمه؛ هم الذين اجتمعوا لتأنيبه. ولقد مضت على وفاة ذلك العالم الجليل أربع وثلاثون عاماً وما زالت الثروة العلمية التي خلفها خير