مسكين هذا الإنسان الذي ينشد الحقيقة فلا يظفر إلا بصداها، ويروم الانطلاق من سجنه والتفلت من قيده، فيضرب بينه وبين رغبته بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب: فمثله كمثل العاصفة يحدق بها الغمام من كل جانب؛ ويطبق عليها من كل مكان تعانده فيضحك، وتحاول تمزيقه فيبتسم، وتود لو انفجرت لتفارقه فيصفح عنها لتلازمه، فلا هو بتارك لها منفذاً، ولا هي بقادرة على الفرار. أو كالموجة محبوسة في هذا البحر العميق تود لو رأت عالما سواه، إلا أن الشاطئ يقف في طريقها سدا منيعا، فتثور في وجهه فتلطمه لتتغلب عليه فلا يتزحزح، وتهدأ ثائرتها فتغسل لتسترضيه فلا يبالي، وتعيد الكرة من غير أن تصيب نجاحا، فتيأس من العلو عليه، وتقنع بسجنها قناعة العاجز الساخط، لا قناعة الراضي المقتدر.
٧ - (روحه كالعاصفة. . . في الغمام تزمجر، ولا تستطيع أن تعلوه!)
والملوم على كل حال روح الإنسان لا ملهمها، لأن هذه الروح مغرورة تحاول أن تجتاز الحد الذي وضع لها، فيدركها التعب، ويسرع إليها الضنى: تريد أن تبرهن على قوتها وهي ضعيفة، على علمها وهي جاهلة، وعلى مقدرتها وهي عاجزة؛ فهي كهذا النسر الصغير الذي لم ينبت ريشه بعد، يريد أن يطير كما تطير النسور، ويريد أن يسابقها منذ تفتحت عينه على عالم النور، ولكنه يتبين ضعفه فيقنع نفسه بالوثوب على الأرض، ثم يتبين عجزه فإذا هو قانع بالترفق في دبيبه، يمشي مشية الحذر، ويبطئ إبطاء الذي يزحف شاكاً مستريباً.
٨ - (وتتعب نفسها وتضنيها كأنها نسر صغير، لم ينبت له بعد شكير
تتفتح عينه على عالمه، فيترفق في الدبيب، ترفق الزاحف المستريب!)