أغاريده: فالبحر لا يقذ إلى ضفافه أمواجَه إلا ليسمع شكواها، وجذوع الغابات لا ينحنى بعضها إلى بعض إلا لتلحن نجواها، والعاصفة لا تملأ صدر السحاب إلا لتضاعف صوتها في أعماقه، والأنهار لا تتنفس إلا لتعلم الناس موسيقاها؛ فلكل منها مزمار يطلق منه أنغاماً تسبح بحمد الله وتقجَّس له، وكلُّ قد علم صلاته وتسبيحه. . . أما الإنسان فإنه مهما صفت نفسه وراق قلبه يتمنى أن يحسن الغناء كما تُحسنه الأمواج، والجذوع، والعواصف، والأنهار، وكل مظهر من مظاهر الطبيعة البكر، ثم يجد أمنيته تصّاعد في عالم مجهول، ثم لا يدري أتعود عليه بالإخفاق أو النجاح. إلا أنه أخيراً يخفق فيعلم أن مزماره من صنع يده وهو لا يصنع إلا كاملا، وأن مزامير الطبيعة من صنع الله وهو لا يصنع إلا كاملا. . .
(١١ - أيها الخضم الذي يقف إلى ضفافه أمواجه الشاكية! يا جذوع الغابات المتناجية!
يا عاصفة يمتليء بها السحاب، ويا أنهاراً أنفاسها خرير! آه! لو أُوتيت هذه المزامير!)
ويلتفت الشاعر إلى نفسه، ثم يخاطب روحه التي تمنَّتْ كثيراً ولم تجب إلا قليلا، ويعجب كيف يصبر نفسه مع الحب الذي يضطرم في أحشائه كأنه نار لا ينطفيء لها لهيب، أو إعصار ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، ويتألم لهذه الروح التي جعلت حب الله صلاتها وتسبيحها، وتقربت إليه بخفي ندائها، ولم تَرْجُهُ إلا أن يشرق عليها بنور معرفته، لينقذها من حماسة كلها لهيب، ومن ذهول كله وحشة، ثم لم يستجب لها بشيء. ولو شاء أن يستجيب، لأسر في أعماقها اسمه الحبيب؛ ولو أسر اسمه لرضيت روح الشاعر، واطمأن قلبه، واهتدى عقله.
(١٢ - وا روحاه! هذا الإله الذي يضرمك حبه كأنه نار. . . أو تحترقين به كأنه إعصار!
لو استجاب - وأنت مشدوهة ذاهلة - لحماسنك الجياشة اللافحة، لأسر اسمه في لفظة واحدة!)
وهنا يهتف بلامرتين صوت خفي: لا تعجل فإن الله يسر اسمه، وما عليك إلا تلتمس زمانه ومكانه فتسمعه: يسر اسمه في أُدن الطبيعة فتهمس به شفتاها وهي مختلية في صومعتها، بعيدة عن الدنيا وضجتها، قريبة من السماء ورحمتها. . . حينئذ تجلس الطبيعة إلى السماء جلسة المستعلم إلى العليم، فتحفظ منها اسم الله وتناجيه معها، ثم تنتظران كلتاهما تنفُّسَ الصبح ليفضي إليهما بأسرار الملأ الأعلى، أو ترقبان عسعسة الليل لتتسمعا سمر الكواكب،