المعطِر يضوع بنقحاته، ثم يعود من حيث أقبل تاركاً هذا المأخوذ برائحته للأعاصير والعواصف، وللرياح والأنواء، يغالبها وتغالبه ويصارعها فتصرعه.
خاف أن تزايله هذه السعادة إذا بقى على قيد الحياة، فتمنى أن تكون ختام حياته، وآخر لحظاته، ليلقى الحقيقة التي سعى إليها بوجه ناضر، وليقف في أول شاطئ ما لخضمه من آخر: فأرسل هذه الأبيات الأخيرة بحرارة الشاعر، وحماسة المؤمن:
(١٥ - هذا الإسم وحده معاداً غير ممنون قمينٌ أن يأسو سقامي في هذا الوادي من الآلام!
فجدير بي أن أهتف غير محزون: لينصرمْ آخرُ أيامي، فقد مجدت الإله، ومرحى بالحمام!)
وإنك لتجس في هذه القصيدة روحاً متصوفة تذكرك بالذين سلفوا من أصحاب النزعة الروحية المجردة، فمن أين لهذا الشاعر مثل هذه الروح؟
ويزول عجلك متى علمت أن لامرتين - وإن لم يتلق التصوف علماً، أو يذقه مسلكا - كان صوفي المزاج، مستعداً للترهب لو تهيأت له الظروف لنشأته في بيت يقدس التقى والزهد والعفاف.
وإني لشاعر في قرارة نفسي بأن هذا المقال موجه إلى طائفة من الناس تتذوقه، وقد يقرؤه غيرهم فلا يجدون الحلاوة التي وجدوها. ولقد أحسن لامرتين إذ وجه هذه القصيدة مع قصائد أخرى من نوها تجاوز الأربعين في ديوانه (أنغام شعرية ودينية طائفة خاصة وصفها في مقدمة الطبعة الأولى بقوله:
(في هذه الدنيا قلوب حطمها الألم، ونبذها المجتمع، تنزع إلى عالم أفكارها وإلى عزلة أرواحها لتبكي او تنظر أو تعبد. فهل أطمع أن يدعو أصحابها أشعارٌ تقدس العزلة كما يقدسونها إلى الشعور بالارتياح نحو أنغامها، وأن يقولوا أحياناً إذا أصاخوا إليها: (إننا لندعو بأقوالك، ونبكي بدموعك، ونبتهل بأناشيدك؟).
لو أن بعض هذه الأرواح التي ليست في هذا العالم مطلقاً تستجيب في سرها لأصواتي الخافتة الضعيفة. ولو أن بعض القلوب التي ما زالت قاسية تتفتح وتذرف دمعة جديدة؛ ولو أن بعض هاتيك الأرواح الحساسة التقية تفهمني وتعرفني وتبلغ سويداء قلبي وتُتِمُّ بينها وبين نفسها ألحاناً لم أزد على أن ضربت على بعض أوتارها فإن هذا حسبي، وإن هذا لغاية متمناي، بل إن هذا لأبعد من أن أرجوه!)