يتبقى فيها من رواسب العواطف المتاينة في النفس الإنسانية.
إن الفنان هو من يعبر عن الحياة فيصدق في التعبير. . . وإلى هنا يكون الفن قد أدى رسالته التصويرية، وهي رسالة تهدف إلى التصوير الأمين والعرض الصادق، ولكن هاتين الميزتين قد تهتز لهما في نفسك عاطفة الإعجاب، دون أن تهتز لهما مكامن الشعور. . . إن الإعجاب بالأثر الفني شيء والاهتزاز له والتأثر به شيء آخر؛ وهنا تبرز لنا الناحية الأخرى من رسالة الفن وهي الناحية الإنسانية، تلك التي يكتمل معها الخلود في العمل الفني. إقرأ للقصاص الفرنسي جي دي موباسان أقصوصتين من أقاصيصه هما (الحلية) و (ولد)، تعجب بالأولى وتهتز من أعماقك للثانية، ثم قارن بين الأقصوصتين تجد البون شاسعاً بين أثر هذه وتلك في حساب الشعور. وما أبعد الفارق بين فن يترك أثره في الذهن، وفن يترك أثره في النفس. . . إن موباسان فنان مبدع هنا وهناك، ولكنه في (الحلية) فنان فحسب؛ فنان يستلهم قلمه. . . أما في (ولد) فهو فنان وإنسان؛ إنسان يستلهم قلبه. . .!
واقرأ بعد ذلك (رينيه) لشانوبريان و (رفائيل) للامرتين و (آلام فرتر) لجوته، تلمس أن نبضات القلب الإنساني في هذه القصص الثلاث، لم تبلغ من القوة والصدق والعمق ما بلغته في (أدولف) لبينجامان كونستان؛ ومن هنا كانت (أدولف) في رأي النقاد أكثرها بقاء على الزمن لأنها أكثرها إنسانية. . . ولقد قرأت هذه القصة مرات، ولا أذكر أني قرأت غيرها أكثر من مرة، بل لا أذكر أن قصة تركت في نفسي من الأثر مثل ما تركت (أدولف)؛ ذلك لأن الفن إنما يقاس بمقدار أثره في النفس ومدى صلته بعنف الوجيب في القلب الإنساني. وأنت حين تقرأ هذه القصص الثلاث، تشعر أن كلا منها قد وضعت للجيل الذي عاشت فيه فهي لا تكاد تصلح إلا له، وأن الفارق بينها وبين (أدولف) هو الفارق بين الفن التصويري الذي يقف بك عند فترة من الزمن لا يتعداها، وبين الفن الإنساني الذي يتخطى حدود الزمان والمكان ولقد بلغ من عمق الصلة بين الفن والإنسانية في (أدولف)، أن اكتشف النقاد أن هذه القصة لم تكن إلا تصويراً صادقاً لحياة مؤلفها، وأن (أدولف) لم يكن في الحقيقة إلا بنحامان كونستان، وأن (إللينورا) لم تكن إلا الكاتبة الفرنسية مدام دي ستابل!