للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

المعجل المسرع

وبدأت أقرأ. . . وكان نبأ. . . وكانت لحظات هي مزيج من الذهول العميق والدمعة الثرة.

حيفا!. . . إن كل صورة من صورها تنتثر أمام عيني في وضوح شائك حاد. . . إن أطيافها التي كانت في ذهني كالضباب المعتم تشرق في لحظة سريعة من مثل لهب النار المتأججة، وتسطع في مثل تألق البرق النير. . . إن أصواتها التي كانت صدى ضئيلاً، نحيلاً، بعيداً، في خاطري لترن في أذني في مثل القصف المفزع. إني لأنظر في الصحيفة التي بين يدي ولكني لا أرى حروفاً ولا أشهد كلمات. . . وإنما أرى هذه المدينة التي مررت بها مرات ومرات في طريقي إلى القاهرة، وفي طريقي إلى دمشق. إني لا أحس ما حولي. . . لكأني في هذه اللحظات أذرع هذا الشارع، شارع الملوك، وأنحني أدخل في الشوارع القديمة التي تمتد وراءه. . . إني لا أسمع هذه الأصوات التي تتعالى هنا تحت نافذتي، وإنما أنا أستمع إلى هذه الأصوات التي (كنت أعيش معها يوماً من كل عام. . . إن آلافاً من الصور السريعة، المتتابعة، المتلاحقة، تغزوني: الفندق والمطعم وسكة الحديد، المحطة القديمة التي أقامها العثمانيون، والمحطة الجديدة التي أقامها اللصوص المنتدبون. . . المدينة القديمة والدكاكين الواطئة والأسواق المغطاة والتجار الدمشقيون وأبناؤهم وإخوانهم وجيرانهم. . . باعة الكتب هؤلاء الذين كنت أرقب عندهم مطبوعات فلسطين وما يتيح الوضع القلق للمؤلفين الفلسطينيين أن ينتجوه. . . المسجد الجامع الذي كنت أصعد إليه على سلم رخامي عريض، والمسجد الآخر الذي كنت أجتاز إليه سوقاً ضيقة مغلفة بالعتمة. . . آلاف العمال العرب، والوجوه العربية، واللسان العربي بهذه اللهجة التي كانت تضم في حيفا كل لهجات فلسطين؛ هذه كلها كانت تنثال عليّ وتنطلق من ذاكرتي كالنبع الفوار المضطرم. . . لم يبق في حيفا شارع أو طريق، مشهد، أو موقف، (كان حقير أو جليل، شيخ كبير أو عامل صغير، عامل دءوب من عمال المحطة، أو صديق كريم من التجار، أو مجاهد نازح منذ نزح فيصل العظيم عن دمشق. . . لم يبق في حيفا القديمة أو حيفا الجديدة هذه التي كنا نسعى إليها في مقر المراقبة لنعرض جوازاتنا وأوراقنا وأقلامنا ونتاج عامنا الدراسي على قوم بكم عجم نستأذنهم المرور بها في بلادنا وأوطاننا. . . هذه كلها عاشت في ذهني مرة واحدة. . . لقد انتفضت كما ينتفض العصفور الجريح بعد

<<  <  ج:
ص:  >  >>