ولكن مصر لم تشرب العسل المسموم، وإنما أكرهت الأنجليز على ابتلاع آرائهم، ووضع ألسنتهم في جيوبهم. . وكان رد البلاد عليهم حاسماً رائعاً:
فأما الأقباط فأكذبوا ادعاء الغاصبين، وخرج القسيسون والرهبان إلى المساجد، وخطب القمص سرجيوس في الأزهر، وفتحت الكنائس للشيوخ والعلماء، ومشى مشيخة الأزهر يحملون بساط الرحمة في جنازات الشهداء، وخفقت الأعلام ذوات الصليب والهلال، وتواصف الناس مقالات سينوت بك حنا (الوطنية ديننا، والاستقلال حياتنا)، وكانت ترانيم القوم قصيدة الشيخ إبراهيم سليمان:
الشيخ والقسيس قسيسان ... وإن تشأ فقل: هما شيخان.!!
كانت سياسة الاستعمار تريد تسليط البلد على نفسه، وكانت ترمي إلى تشتيت قوته، وتوجيه ثيار الثورة في غير مجراه. . . ولكن مصر المتحدة لطمت هذه السياسة لطمه اليمة، وعرفت كيف ترد سهام الإنجليز إليهم. . لم يكن في مصر مسلمون وأقباط، وإنما كان فيها مصريون: مصريون لهم صوت واحد يدوي بالاستقلال (وأن الوطن للجميع، والدين للديان).
وأما الموظفون فقد جاء ردهم على مزاعم الإنجليز مفحماً، وجاء في أهرام أول إبريل سنة ١٩١٩ تحت عنوان المسألة المصرية في مجلس النواب (أن العناصر الأكثر رزانة من السكان لا تستحسن هذه المظاهرات). فأسرع هذا وأمثاله بالموظفين إلى الإصرار على دحض مزاعم المستعمرين، وإسقاط حجتهم أمام العالم، وكان الإضراب هو الرد البليغ الذي لا رد سواه. وكتبت أهرام ٢ إبريل سنة ١٩١٩ تحت عنوان شعور الموظفين (أنهم لاحظوا ان بعضهم أخطأ في فهم شعورهم في الأحوال الحاضرة فقرروا الإضراب عن العمل غداً (الخميس) ويوم السبت المقبل في جميع الوزارات والمصالح) وعلى هذا يكون بدء الإضراب يوم الخميس الثالث من إبريل، وعلى هذا جرى المنشور الحكومي الذي أذيع على الصحف في أول مايو سنة ١٩١٩ عندما أرادت الحكومة أن تؤاخذ الموظفين فتقطع رواتبهم أيام الإضراب؛ فقد حدد منشور (الحقانية) أيام الإضراب وقدرها سبعة عشر يوماً من ٣ إلى ٥ إبريل ثم من ٩ إلى ٢٢ منه.
ويقول عبد الرحمن بك الرافعي: إن الإضراب بدأ بالفعل يوم الأربعاء ٢ إبريل ولكنه