وهو يعتقد أن هذا المقام كان من أوكد الأسباب في إخراج الكتب، غير أننا نرى كما سبق القول في ذلك، أن ظهور الفلسفة والعلوم في الإسلام كان أمراً طبيعياً وكان من مستلزمات الحضارة، وأن اتصال المسلمين بالأمم المتحضرة كان يوجب عليهم الاكتساب من علومهم ومعارفهم.
وكما أن اللغة اللاتينية كانت لغة العلم في جميع البلاد الأوروبية طوال القرون الوسطى، أصبحت اللغة العربية بالتدريج، لغة العلم والعلماء بين المسلمين. وكان العلماء والمسلمون من كل قوم ولغة يؤلفون مؤلفاتهم بها ليستفيد منها جميع المسلمين. وبتوالي الزمن أصبحت المصطلحات العلمية التي وضعت في اللغة العربية، كالنقد الرائج يتلقاها الجميع بأحسن قبول.
هذا ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى أن للغة العربية خصائص ومزايا تجعلها صالحة لوضع المصطلحات الجديدة فهي عن أغنى لغات العالم، ففي اللغة العربية مثلا وزن (فُعال) وأكثر الكلمات التي على هذا الوزن، مثل صداع وزكام وجذام ودوار وبحار (دوار البحر) وخمار وغيرها تدل على الأمراض، وتلك مزية قلما تتوفر في لغة أخرى، إلى غير ذلك من مزايا لا تعد ولا تحصر.
وقد وضع العرب في بعض الأحيان بمهارة متناهية، كلمات عربية تؤدي معاني الكلمات اليونانية بدقة مثل كلمة تشخيص مقابل كلمة ديا جنوسيس وتقدمة المعرفة مقابل بروجنوسيس كما أنهم كانوا في أحيان أخرى يأخذون نفس الكلمات اليونانية بصورتها الأصلية مع تحريف بسيط يناسب النطق العربي مثل كلمات (ذوسنطاريا) و (إيلاوس) و (ذياييتوس).
وهذه الكتب المترجمة إلى العربية هي التي ترجمت من العربية إلى اللاتينية في القرون الوسطى، وترجمت معها المؤلفات الطبية لمحمد بن زكريا الرازي، وعلي بن العباس المجوسي الأهوازي، والشيخ الرئيس ابن سينا، وأبي القاسم الزهراوي وإضرابهم، ودرست في مدارسهم وبعد ذلك بزمن طويل أي في العصور الحديثة عرف الأوربيون المتون اليونانية الأصلية لتلك التراجم؛ وبعد العثور على المتون الأصلية، فقدت التراجم العربية رونقها السابق.