صنع هؤلاء (يعني أصحابه) وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعني المشركين)) ثم امتطى صهوة جواده واستل سيفه وشرع رمحه وتقدم نحو صفوف الكفار فاستقبله (سعد بن معاذ) فقال له أنس (يا سعد بن معاذ!. . . واهاً لريح الجنة! إني لأجد ريحها ورب النضر عند هذا الجبل) وألفى أبا بكر وعمر وقد انتحيا جانب الجبل وألقيا بأيديهما فقال: ما يجلسكم!. . . قالوا: قتل رسول الله، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه) ثم ألقى بنفسه في أنون المعركة واستقبل الموت استقبالا رهيباً لا عهد للناس بمثله وقد وهب روحه (فداء) للإسلام الذي آمن به والرسول الذي اتبعه.
انجلى غبار المعركة وهدا صليل السيوف ورجعت الجيوش أدراجها وبقى من المسلمين من يلم القتلى ويحمل الجرحى. . . وافتقد المسلمون (أنس بن النضر) فلم يجدوه بين الجرحى أو القتلى فاشتد حزنهم عليه وعظم مصابهم به وأيقنوا بأنه قد أصبح أسيراً في يد المشركين يسمونه سوء العذاب وينتقمون منه شر انتقام؛ وبعد قليل جاءت أخته (الربيع) لترى أخاها فألفت المسلمين حيارى لا يعرفون من أمره شيئاً، وأخبروها بأنهم لم يجدوه بين القتلى أو الجرحى، فأنعمت النظر في وجوههم التي مثل بها المشركون فلم تجد بين هذه الوجوه التي شوهها الأعداء ما يدل على أن أخاها منهم، وكادت تقطع بما قطع به القوم لولا أن وقع بصرها عقواً على (بنانه) وكان جميل البنان فعرفته بها وأيقنت أنه (أنس) فأكتب عليه وهي تبكي ووقف المسلمون إزاءه يترحمون عليه ويسألون الله له الجنة.
يقول أنس بن مالك (فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون).
ويقول (كنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه من المؤمنين (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا).