وكان من نتائج هذا الاهتمام والتشجيع أن ظهر عدد كبير من مهرة النقلة في ذلك العصر.
يذكر المؤرخون أن المأمون كان يعطي حنين بن اسحق العبادي ما يعادل وزن الكتب التي يقوم بنقلها إلى العربية ذهباً
وكان يشتغل في دار الترجمة التي كان يرأسها حنين أكثر من تسعين مترجماً ينقل الكتب، ومن مشاهيرهم ابن أخته حبيش الأعسم، وعيسى بن علي، وعلي بن يحيى، وأيوب الأبرش، وحجاج بن مطران.
وبفضل جهود هؤلاء وعلو هممهم وبصرف الأموال الكثيرة وتحري الدقة المتناهية نقلت إلى العربية كتب كثيرة نفيسة حقاً تجد في كثير من كتب التاريخ، ولاسيما في كتاب الفهرست لابن النديم، أسماءها وعناوينها بالتفصيل. غير أن كثيراً من هذه الكتب قد ضاع بسبب ما أصاب القسم الأكبر من البلاد الإسلامية في القرن السابع للهجرة من الخسائر نتيجة لحملة المغول عليها. وليس لدينا الآن من آلاف الكتب غير أسمائها؛ وربما كان هناك كتب كثيرة ضاعت وضاعت معها أسماؤها أيضاً
وينبغي ألا يغيب عن بالنا أن شيوع عقيدة الأشاعرة الجامدة الشديدة التحفظ، وتغلبها على طريقة المعتزلة الحرة في البحث العلمي والديني، وعوامل كثيرة أخرى كانت قد أثرت في النهضة العلمية الإسلامية فحدَّت من تقدمها قبل حملة المغول، إلا أن هذه النهضة العلمية كانت لا تزال بعد على شيء من القوة، وكان مقام العلم والأدب لا يزال شامخاً إلى ان جاءت حملة المغول كالسيل الجارف فأصابتها بصدمة قوية فلم تقم لها بعد ذلك قائمة.
إلا أن حملة المغول هذه لم تصب العلوم الطبية بما أصابت به غيرها من العلوم من ضرر، لأن أفراد قبائل المغول على رغم بربريتها كانوا يهتمون بصحتهم وسلامة أبدانهم، لذلك فقد حفظوا كتب الطب من الإضمحلال والضَياع، كما أن حبهم الشديد للشهرة وخلود الذكر كان من الأسباب التي صانت كتب التاريخ من الضياع والفناء.
إن هذه العاطفة اعني حبهم للشهرة وخلود الذكر لم تصن كتب التاريخ من الضياع فحسب، بل كانت سبباً لتأليف كتب أخرى نفيسة في هذا الباب، مثل تاريخ جهانكشاي للجويني، وجامع التواريخ لرشيد الدين بن فضل الله الحمداني، وتاريخ الوصاف لفضل الله الشيرازي، وتاريخ كزيده لحمد الله المستوفي القزويني، وهي كلها معتبرة من الآثار