فأخذ بمجامع القلوب في حياته ومماته، وكان اعتداله وإخلاصه ما كف الألسن عنه حياً، وخالف عرف أبناء جيله في مسائل اجتهد فيها فتحملوه وما تبرموا به، واكتفى من دنياه بما أعطته فكان خير معلم ومرشد.
ولقد روى في أدب الدنيا والدين شيئاً دل على بعد غوره وفرط دهائه قال: وربما صنع ذا السفاهة من طلب العلم أن يصور في نفسه حرفة اهله وتضايق الأمور مع الاشتغال به حتى يسمهم بالأدباء، ويتوسمهم بالحرمان؛ فإن رأى متحلياً بالعلم هرب منه، كأنه لم ير عالماً مقبلاً وجاهلاً مدبراً. ولقد رأيت من هذه الطبقة جماعة ذوي منازل وأصول، كنت أخفي عنهم ما يصحبني من محبرة وكتاب لئلا أكون عندهم مستثقلا وإن كان البعد عنهم مؤنساً ومصلحاً، والقرب منهم موحشاً مفسداً
وهاك مثالاً واحداً من إخلاصه في قضائه وتحريه للحق: أما أمر الخليفة أن يزداد في ألقاب جلال الدولة ابن بويه لقب (ملك الملوك) لم يُفتِ مع من أفتى بجواز ذلك؛ مع أنه كان من خواص جلال الدولة، فلما أفتى بالمنع انقطع عنه. فطلبه جلال الدولة، فمضى إليه، على وجل شديد؛ فلما دخل قال له: أنا أتحقق أنك لو حابيت أحداً لحابيتني لما بيني وبينك، وما حملك إلا الدين؛ فزاد بذلك محلك عندي.
وقال عن نفسه في كتاب أدب الدنيا والدين: ومما أنذرك به من حالي أنني صنفت في البيوع كتاباً جمعت فيه ما استطعت من كتب الناس، وأجهدت فيه نفسي، وكددت فيه خاطري، حتى إذا تهذب واستكمل، وكدت أعجب به، وتصورت أنني أشد الناس اضطلاعا بعلمه؛ حضرني وأنا في مجلسي أعرابيان فسألاني عن بيع عقداه في البادية على شروط تضمنت أربع مسائل لم أعرف لواحدة منهن جواباً، فأطرقت مفكراً، وبحالي وحالهما معتبراً؛ فقالا: ما عندك فيما سألناك جواب. . . أنت زعيم هذه الجماعة؛ فقلت: لا. فقالا: واهاً لك، وانصرفا ثم أتيا من يتقدمه في العلم كثير من أصحابي؛ فسألاه فأجابهما مسرعاً بما أقنعهما، وانصرفا عنه راضيين بجوابه حامدين لعلمه. فبقيت مرتبكا، وبحالتهما وحالي معتبراً؛ وإني لعلي ما كنت عليه في تلك المسائل إلى وقتي. فكان ذلك زاجر نصيحة ونذير عظة تذلل بها قياد النفس، وانخفض لها جناح العبج؛ توفيقاً منحته ورشداً أوتيته. وحق عليّ من ترك العجب بما يحسن أن يدع التكلف لما لا يحسن، فقد نهى الناس عنهما