للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

شخصيته، وتتجلى تجاربه ومعرفته بأمور الدول، وتاريخ الحركات الفكرية والسياسية في الإسلام. تتمثل الماوردي وأنت تقرأ الأحكام السلطانية عالماً عصرياً قتل الحياة تجربة، وما دَوَّن للناس إلا ما ينفعهم بإيجاز لا خلل فيه، وهو من الكتب التي إذا قرأتها مرة ساقتك بدون نقصد منك إلى معاودة قراءتها؛ بل لو قرأتها مرات شاقتك فتتصفحها مرة ومرة. وحقاً إن هذا السفر الممتع هو مرجع فريد في فنه: كتاب في جرم صغير ونفع غزير. ولو لم يكن غيره من المصنفات لكفي أن يعدّ صاحبه من أعظم المؤلفين المجودين وأنت إذا حدقت النظر في هذا الإبداع تراءى لك أن الماوردي لم يتقن من فنون العلم غير هذا العلم، وإنه شغل بوضعه زمناً طويلاً في حياته، فقد جمع هذا العظيم إلى معرفته الكاملة بشرع الإسلام معرفة توازيها في سياسة الناس، وحسن القضاء بينهم، وقيام الدول ونُظمها. ولقد أفاض في الأحكام السلطانية في الخلافة، وتقليدها، والوزارات وأنواعها، والإمارات والولايات، والقضاء وضروبه، والمظالم والنقابات والجبايات من خراج وجزية وصدقات وحمى وأرفاق وإقطاعات، وكلام على أنواع الدواوين، وأحكام الجرائم والحسبة والمنكرات والمعروفات، وغير ذلك مما له مساس بأحوال المجتمع، وفيه مقنع لمن ادعوا أن المسلمين أيام عزهم كانوا يسيرون على غير قوانين مدونة. وما أشبه كتاب الأحكام السلطانية بالشريعة الإسلامية يصلح لكل جيل وكل قرن، لا يعروه عتق ولا وهن. وأنت كلما أمعنت النظر في صفحاته زدت حرمة لصاحبه، وإعجاباً بما خطته أنامله على القرطاس، ولا نعدو الحق إذا قررنا أن كتاب (أدب الدنيا والدين) هو أيضاً من أمتع ما كتب علماء الأخلاق والتربية، مصادره الكتاب الكريم، والسنة الصحيحة، وأقوال الحكماء والبلغاء، وفيه طائفة من الشعر البديع والنثر المنسجم؛ لو درسه الطالب أجزأه عن المطولات، وكان له مادة يستشهد بها مدى حياته.

وبعد فان الماوردي لا يعدُّ من المكثرين جداً من التأليف، ولكنه يحشر في المجودين جداً فيه؛ فهو نابغة عصره في تطبيق مفاصل الشريعة، واستبطان أسرارها، أتى بجديد ما كان يعرفه الناس، ولا اهتدت إليه القرائح قبله، وأخذ من القديم كل ما ينفع ويرفع، وكان له من توليه القضاء درس حال البيئات الكثيرة ومن طول عمره معوان على تفهم ما قرأ وثقف ودرّس، وتمثل ما روى وروى. وبتفرغ قلبه من هموم الحياة فرغ وقته لنشر أنوار علمه؛

<<  <  ج:
ص:  >  >>