رشده، ويقلع عن أباطيله إذا فارق هذه البسمات الوضاء، وترك تلك الوجوه الصِّباح التي ألفها وألفته، ولكن الحنين يراجعه، والشوق يعاوده، إلى صاحبته الثريا فيقول:
هيهات من أمة الوهاب منزلنا=إذا حللنا بسِيف البحر من عدن
لا داركم دارنا يا وهب أن نزحت ... نواك عنا ولا أوطانكم وطني
فلست أملك إلا أن أقول إذا ... ذكرت لا يبعدنْكِ الله يا سكني
بل ما نسيت ببطن الخيف موقفها ... وموقفي وكلان ثم ذو شحن
وقولها للثريا يوم ذي خشب ... والدمع منها على الخدين ذو سنن
بالله قولي له في غير معتبة ... ماذا أردت بطول المكث في يمن
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها ... فما أخذت بترك الحج من ثمن
وهكذا يعتذر بغير العذر، ويتكئ على غير عصاه، وإلا فما لهذا الفاتك والحج يتعلل به، ويتباكى على فوته؟!!
ومهما يكن من أمره فإن طول نظري قيما أحاط بأخريات حياته يقضي على أنه نسك، ولكنه لم ينسك استجابة لوعظ واعظ، ولا خضوعاً لإرادة مريد، وإنما رأى الستين نقلت على كاهله، والسن تخونته، وغزلان الحجاز تنفر منه، بعد أن انطفأت جمرة شبابه، وخمد مشبوب عاطفته، فماذا يصنع؟ هربت منه اللذات، وتنكرت له الصبابات، فليمل إلى جنب الله، وليستجب لداعي التوبة، وهو يرى الموت على حبل ذراعه، وينظر قبره قد حفر، وإنها لفرصة قد انتهزها، لما تولى عمر ابن عبد العزيز الخلافة بعث إليه فلما جاءه قال له: هيه:
(فلم أر كالتجمير منظر ناظر) وذكر له البيتين اللذين ذكرناهما آنفاً، ثم قال: فإذا لم يفت الناس منك في هذه الأيام، فمتى يفتلون؟ أما والله لو اهتممت بأمر حجك لم تنظر إلى شيء غيرك؛ ثم أمر بنفيه، فقال: يا أمير المؤمنين أو خير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: إنما هو الله ألا أعود إلى مثل هذا الشعر، وأجدد توبة على يديك. قال: أو تفعل؟ قال: نعم. فعاهد الله على التوبة
والذين يؤكدون أن عمر تاب رهبة من خليفة المسلمين يجهلون كل الجهل طبائع النفوس إذا عمرت، فإن الرجل مهما أسرف على نفسه، فسيجد من تقدم سنه ما يوحي إليه بالإنانة