وهكذا يحاول أن يدفع عن نفسه ما وقر في أذهان الناس مما أخذوه من شعره، فيصدقه قوم، ويؤكدون عفته وطهارته، فيذكر بعض الرواة أن عمر عاش ثمانين سنة فتك منها أربعين سنة، ونسك أربعين سنة. ويروي صاحب الأغاني عن الزبير بن بكار قال:(لم يذهب على أحد من الرواة أن عمر كان عفيفاً، يصف ويقف، ويحوم ولا يرد). ويكذبه آخرون، ويجابهونه بهذا التكذيب، ويعتمدون فيما يعتمدون على اعترافه على نفسه في بعض الأحايين، وتشك طائفة ثالثة في مبلغ قوله من الصدق حتى معاصروه أنفسهم لا يطمئنون إِلى شيء من هذا.
ولاشك أنه بذلت محاولات كثيرة لرده عن غوايته، وصرفه عن حياة اللهو والعبث. ويبدو أن شيئاً منها لم يفلح، وأن الأمر كان كما يقول عبد الملك بن مروان:(أما أن قريشاً تعلم أنك أطولها صبوة، وإبطاؤها توبة).
وفي بعض الروايات أنه تاب على حدود الأربعين، ونذر لئن قال بيتاً ليعتقن به رقبة، ثم انصرف إلى بيته مهموماً مكتئباً، وربما مكث على هذه التوبة أياماً، لكن الحنين عاوده، والشوق إلى الشعر استبد به، فأطرق وفكر، فأدركت جارية ما بنفسه من أسف على توبته فقالت له إن لك لأمراً، فاندفع يقول شعراً، فكان تسعة أبيات، فأعتق تسعة من عبيده، وفي هذا الشعر يقول:
تقول وليدتي لما رأتني ... طربت وكنت قد أقصرت حينا
أراك اليوم قد أحدثت شوقاً ... وهاج لك الهوى داء دفينا
وكنت زعمت أنك ذو عزاء ... إذا ما شئت فارقت القرينا
فقلت شكا إلى أخ محب ... كبعض زماننا إذ تعلمينا
وذو القلب المصاب وإن تعزى ... مشوق حين يلقي العاشقينا
ولعل أخاه الحارث - وكان ديناً عفيفاً لم تلد أمة خيراً منه كما يقول عبد الملك - كان أكثر الناس وعظاً له، وربما حاول غير مرة أن يكبح جماحة، ويصرفه عن صويحباته، وربما بذل في ذلك غاية وسعه، وأفرغ له كل جهده، ولكنه لم يفلح أيضاً؛ وعاد يقول:(ما أرى عمر ينتفع بوعظنا) أغراه بالمال، وبعث به إلى اليمن حيث أخواله، رجاه أن يثوب إلى