ذكرياته ورحلاته، وكان (للوظيفة) وقصص (الموظفين) حظ منها عظيم. لقد فضح شيئاً من حياتهم والجو الذي يعيشون فيه، وحلل نفسية (الموظف) تحليلا ليس فيه رفق ولا محاباة، وإن كان فيه بعض العطف وكثير من الشفقة. قرأ الناس بعض ما نشر من هذه المذكرات فعجبوا منها واستغربوا ما فيها. أضحك بها بعض زملائه القدماء، وأبكى الكثير منهم على نفوس أفسدها جو (الوظيفة) وحياة خسروا فيها أثمن ما في الحياة، خسروا فيها حرية التفكير، ولذة الانطلاق من القيود.
هذه هي قصة الشاب الذي خسر اليوم حرية (المحامي) التي أحبها، وجو (المحامات) الذي عاش فيه طلقاً عاملا على تحقيق رغباته العلمية، وبلوغ أهدافه الثقافية.
أليس من الغريب أن يخبرك هذا الشاب بنفسه أنه ترك اليوم مهنته ليقوم (بعمل حكومي) كلف به، وهو الذي رفض قبله عدة مرات تكليفاً له في (الوظائف) الهامة قيمته، وفيه تقدير لدراسة عالية أضافها إلى دراسته القانونية. إن قائداً من قواد الجبهة الوطنية ومعلماً من معلمي الإخلاص والنزاهة يدير اليوم وزارة العدل في سورية، يطلب من الشاب أن يؤدي (خدمة مدنية) في جبهة (القضاء) الوطنية فيحار الفتى ويكاد يرفض لولا أن ثقة الطالب ثقة غالية نادرة لا تباع ولا تشترى بمال، ولولا أن مقر (الخدمة) في (جبهة) لا ذل فيها ولا صغار، ولا يخرج من فيها إلا ظافراً منتصراً مادام ناصع الجبين و (سلاحه أبيض) لا يعرف صدأ الأيام، ولم تلوثه (رغبة أو رهبة)؛ نعم كاد يرفض لولا أنه ما يزال يشعر بقوة ومناعة يستطيع معها دفع ما وضع على عاتقه يوم يجد فيه أعراض (الوظيفة) أو شيئاً من سمومها الفتاكة.
من غرائب المصادفات:
للمصادفات في هذه الحياة أثر عظيم، ولغريبها تاريخ يدون ويقرأ، وجميلها من النوادر التي تذكر وتنشر، فإن في ذكرها متعة ولذة، وإن في نشرها اعترافاً بجمالها وتقديراً لموقعه من النفس الشاعرة المقدرة.
لقد أخرج القانوني الأديب الأستاذ عبده حسن الزيات كتابه القيمة عن القاضي العظيم سعد زغلول سنة ١٩٤٢، وقد أحب يوم عقد مؤتمر المحامين العرب في دمشق التلطف بإهدائي نسخة منه لو وجد معه من الكتاب نسخة، ثم عاد الأستاذ الصديق إلى مصر وانقضت على