وكانت هذه الحروب - في كثير من ظروفها - منشطة لشياطين الشعراء والأدباء، فتابعوا سيرها وتحولاتها، مستمنحين منها الوحي، مستشعرين الإلهام. فمدحوا الملوك والأمراء الذين أبدوا من ضروب الشجاعة والمهارة ما استحق التخليد، وكان لأعمالهم أثر مجيد في الانتصار. وحمسوا وفاخروا بما نال جيش مصر من الظفر، ووصفوا الوقائع وما حل بها من حوادث وما صاحبها من آلات القتال، كالرماح والسيوف والخيل واللامات، وسجلوا بذلك كله كثيراً من حوادث أجيالهم، وشاركوا العصر إلى حد ما في آلامه وأحلامه.
ولم يقصر الكتاب الناثرون عن إخوانهم الشعراء في هذا المضمار. فقد كان بمصر حينذاك ديوان من دواوين الدولة خاص بالكتابة وهو (ديوان الإنشاء) تصدر عنه الرسائل الرسمية الهامة. ويلي أمر الكتابة فيه حذاق المنشئين وبارعوهم. وكان في جملة الرسائل التي يعنون بكتابتها (البشارات) وهي أنواع، ومنها: البشارة بانتصارات الجيش على أعدائه، فيوصف فيها تحرك الجيش واستعداده للاشتباك في القتال وما يأتيه السلطان أو أعوانه من ضروب المغامرة والشجاعة، وما يصبونه على عدوهم من أهوال، وما يصيبونه بعد هذا من نصر وظفر، إلى غير ذلك. وكانت هذه الرسائل تكتب بعبارة أدبية طريفة مطولة يجري أسلوبها على الطريقة الفاضلية أو النباتية، يبدع فيها الكتاب ما شاء لهم الإبداع والفن الكتابي الذي يسلكون سبله. وتنشر هذه الرسائل على الناس أو تتلى في المجامع. فهي إلى حد ما شبيهة بما يكتبه مراسلو الصحف في أيامها، ممن يصحب الجيوش في تحركاتها. وذلك لما يسري فيها من روح أدبية ونزعة عاطفية. ومن هنا تفارق البلاغات الرسمية الحربية التي يذيعها أولو الشأن اليوم عن حركات الجيش في لطف وإيجاز. ولو استطعنا جمع هذه البشارات كلها لكان لنا منها سجل أدبي رائع عن حروب المماليك وانتصاراتهم.
وقد روى أن الظاهر بيبرس سلطان مصر غزا في الشام، واستطاع بجيشه المصري أن يقوع بالتتار ويذل الفرنجة ويفتح المدن المنية ويدك الحصون المستعصية. وقد شارك جنوده وعماله بيده في أداء أعمالهم، وأظهر خوارق من المغامرات. ولما فتح قيسارية - وكانت من قلاع الفرنجة ومدنهم الحصينة - كشف بلادها وقمَّم خراجها، وورع ذلك كله على أمراه الذين شاركوه في جهاده. وكتب بذلك (مكتوب جامع بالتمليك) وهو ضروب