والدين نفسه يقوم على الروايات. فما هو كتاب التوراة، وما هو كتاب الإنجيل، وما هو القرآن؟ أليس للرواية من هذه الكتب الدينية أكبر نصيب؟
وإن تكن التوراة أقدم كتاب تتداوله الأيدي ويتسنى للجميع الاطلاع عليه، جاز لنا القول أنه أول كتاب عرفه العالم مشيد الأركان على القصة. فهو يبدأ بقصة وينتهي بقصة. والكتب الخالدة في معظمها - إذا استثنينا كتب الفلسفة والعلم - كتب قصصية سواء صبت نظماً أو نثراً.
ولا شأن اليوم في المؤلفات الأدبية لسوى المؤلفات القصصية، وهذه الكتب التي تتمتع بالجوائز الضخمة، ولا سيما جائزة (نوبل)، لا تخرج في سوادها الأعظم عن النطاق الروائي.
ولقد جاء الأدب العربي في عهده الأول بما يعجز عنه الغرب من قصص وروايات. فما هي (كليلة ودمنة)، وما هي (ألف ليلة وليلة)، وما هو (عنتر)، بل ما هي (الأغاني)، وما هو (المستطرف)، وما هو (العقد الفريد)، وما هي (نهاية الأرب)؟. . . كلها روايات وقصص: وإن لم تكن كليلة ودمنة غير عربية المولد فهي لم تخلد في سوى النص العربي. وباستطاعة لغة الضاد أن تتبناها، خصوصاً ولها عليها باستبقائها يد بيضاء وما يقال في كليلة ودمنة يقال في ألف ليلة وليلة. فالأدب العربي احتضن ألف ليلة وليلة وتعهدها بالبقاء. ويمكن الإدعاء أنها عربية الوجه واللسان. أما رواية (عنتر) فقد روى أنها من سبك الأصمعي. والأصمعي - ألف رحمة الله عليه - خير من لفق وأختلق، وروى وتحدث، وسرد وأبتكر وأخترع. ولقد أتى بالعجائب وهو في تلك الصحراء الكاوية اللاذعة. فبهر العيون وملك اللباب بغزارة علمه وفرط ذكائه وعذوبة حديثه وفيضان بحره. فانه ليتدفق كالسيل في الحديث عن الأعراب وعشقهم وغرامهم. ويروي حكاياتهم بدقة وإبداع، فيسحر سميعه وجليسه، ويستدر رفد الملوك والعظماء، ويجود بالمعجزات فيقصر عنه المتطاول والمقلد واللاحق، كأن سر الرواية في الأدب العربي القديم لم يفتح على غير الأصمعي.
ولو ظهرت كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة في هذا العهد لكان الأدب العربي سيداً في الفن الروائي، حتى وإن يكن ثمة من يزعم أن الكتابين ليسا من مبتكرات الأدب العربي، فليس من أدب غير الأدب الشرقي يسبح في هذا الخيال الرحيب الخصيب.