ولا ننسى أن أداء القصة وسياقها في كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة يختلفان كل الاختلاف عن مثلهما في روايات اليوم. فهما جديدان مبتكران لقوة المخيلة فيهما اليد الطولي. ومن المحال أن يوفق فيهما ويهتدي إليهما من لم يكن يحلق في الأفلاك.
واختلافهما عن روايات اليوم يحببانهما إلى عشاق الروايات ويفسحان لهما المقام الأول في الأدب العالمي، ولكن أين من يقوى على توفير ذلك النسيج؟
ربما جهل الأدب العربي يوم طلعت في سمائه (كليلة ودمنة) و (ألف ليلة وليلة) قيمة هذين السفرين. ربما أعرض عنهما وشغف بمقامات الهمذاني والحريري - ومقامات الهمذاني والحريري فن روائي خاص - على أنه اليوم يدرك شأنهما ولا يتنكر لهما بل يفاخر بهما وإن يكن استمدهما من بلاد الهند وفارس كما ذاع وشاع
لقد كان الأدب اليوناني يحفل بهذه الأقاصيص البارزة في كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة. ومن هذا الأدب نهل (لافونتين) في أقاصيصه الفرنسية ذات الشعر الطليق. على أن ثمة من يقول، ويثبت ما يقول، أن (لافونتين) سمع بكليلة ودمنة فاقتبس منها وصاغ تلك الأقاصيص الواقفة في طولها عند الفتر، وإن تجاوزته فإلى الشبر، الملأي بالمغزى الرائع والإرشاد البليغ، فاستعان بالحيوانات على تأذيب الملوك شأن أبن المقفع في كليلة ودمنة. ومما يدل على اقتباس (لافونتين) من كليلة ودمنة أن بين أبن المقفع ولافونتين نحواً من ألف سنة، وأين كان الأدب الفرنسي يوم كان الأدب العربي زاهراً رياناً يناطح السماء؟. .
قد نسمع ممن نحدثه عن كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة أنهما شيء قديم. غير أن هذا القديم لا تخلق جدته. فهو أبداً جديد. وعشاق الروايات وقد ملوا طراز اليوم، وبعضه يشبه بعضاً، يميلون إلى الجديد. وروايات ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة مما يجوز أن نسميه جديداً، وإن تكن انبثقت منذ ألف عام.
ولا نكير في أن ثمة خرافات وأساطير، على أن الخرافات والأساطير إذا عرضت على الناس في غناء مزخرف براق وكانت دسمة طيبة أزدردها الناس وهضمتها المعد. وخرافات ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة كالفاتنة الحسناء، وكل ما يعاب على ألف ليلة وليلة المجهولة الأم والأب أنها ركيكة ضعيفة في قالبها، ولو أتفق لها من يصوغها في بيان ابن المقفع لنافست كليلة ودمنة في متانة تعبيرها وصحة مبناها.