سورة الحشر التي سجلت مخزاة بني النضير. ومن مظاهر هذا الاهتمام أن أول سورة نزلت بالمدينة وهي سورة البقرة جاء في صدرها نحو الثمانين آية مما يتعلق باليهود وآبائهم، وأن الدارس ليستطيع أن يستخلص أهم المظاهر الأخلاقية التي كانت فاشية فيهم من بخل، وجهل، وعناد، وخيانة، وغدر، ودعاوي طويلة عريضة، ونفاق ورياء إلى آخر ما حفلت به الآيات الكريمة، ولكني هنا أريد أن أتحدث عن صفة واحدة من صفاتهم تلك هي (نقض العهود).
وقد ذكر جار الله الزمخشري في كشافه عند تفسير قول الله تعالى (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم) قال: (واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود. وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا، وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا). . .
نعم قد أخذ الله منهم مواثيق كثيرة، ذكرت في القرآن، ولكنهم نقضوا جميع هذه المواثيق، وقد عاهدهم النبي غير مرة، ولكنهم كانوا ينقضون عهدهم في كل مرة.
فإنه صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة وجد نفسه بين نارين: نار اليهود في المدينة، ونار المشركين في مكة، لذلك كان حريصاً على أن تحسن العلائق بينه وبين اليهود، فعقد معهم عهدا سياسيا خطيراً، بين فيه حقوق الطوائف كلها من مهاجرين وأنصار ويهود، ونص فيه على شروط الدفاع والهجوم، فقد كان يفكر في مهاجمة مكة، كما كان يتوقع أن تهاجمه يوماً ما، وقد أمن اليهود على كيانهم الاجتماعي، وترك لهم حرية الديانة. ومما جاء في هذا العهد (وأنه من تبعنا من يهود فإن له النضرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين. لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين).
وعاشوا في ظل هذا العهد آمنين مطمئنين حتى تكشف نواياهم، ونزلوا عند حكم طبائعهم، فقد كانوا يريدون أن يستميلوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانبهم، وكانوا يجدون رَوحا واطمئنانا في استقبال المسلمين بين المقدس في الصلاة، فلما رأوا أن بعض أحكام القرآن لا تتفق وأحكام التوراة، وجاء للنبي الأمر بالتوجه - في صلاته - إلى الكعبة بدرت منهم السوءة السوءاء، وقالوا: لو كان نبياً حقاً ما ترك ملة إبراهيم، وهم يزعمون أن بيت