وخبرة، وشفته من الرمضاء في رفق وقدرة فهي لذلك مقيل ندمان، ومغنى حمائم، لا بل مرتع ظباء وفناء درماء، يطيب في ظلتها الصيف كما يحلو تحت عطفها الشتاء.
وهي قائمة في مكانها راضية كأنها سيدة دار شرقية، أضفى الإسار عليها من الكرامة ثوباً، ومن العزة ذوباً. وبحسبها أن يحبوها النيل تبرا فتنفثه زهراً. وتهزها الصبا فتصبو، وكأنها إليك مقبلة تتهادى في مطارفها، وتختال في خفائفها. تخطو خطو المرهاء، بغير عين كحلاء. وأغصانها الرشاق أعطاف وطفاء
وإذا صفق الموج من تحتها طرباً، نقطته بأزاهيرها ما بين صفراء فاقعة، وبيضاء ناصعة. وإذا جاسن بالنهر خريره، مالت إليه، كأنها أذن مصغية تسمع سره، وتتعرف أمره، فيريها في مرآته محاسنها، وفي صفحته مفاتنها.
وقد خلع عليها القدم قدسية فأصبحت كدير راهب، إذا اعتلى بلبلها ذرا غصن فيها وراح يملأ سواد الليل بتطريبه وترتيلاته خلته مسبحاً داعياً، ومصلياً منادياً.
على هذا الضرب الفريد من الوصف، نظم ابن مكانس سرحيته العصماء، وقد بدأ مطلعها بمناجاتها والدعاء لها وتذكر ما كان بينه وبينها فقال:
يا سرحة الشاطئ المنساب كوثره ... على اليواقيت في أشكال حصباء
حلت عليك عز إليها السحاب إذا ... نوء الثريا استهلت ذات أنواء
وإن تبسم فيك النور من جذل ... سقاك من كل غيم كل بكاء
رحماك بالوارف المعهود منك فكم ... لنا بظلك من أهوا وأهواء
ومنها:
يا طبة بدواء القيظ عالمة ... أنت الشفاء لدى الرمضا من الداء
لا صوح الدهر منك الزهر وانبجست ... عليك كل هتون الودق سوداء
ومنها:
خمائل الروض منشاها ومرضعها ... ضرع النميرين من نيل وأنواء
فاستمهدت دوحها المخضل وافترشت ... نجم الربا ورمت عرشاً على الماء
قريرة العين بالأضواء باردة ال ... قلب الذي لم تنله غير سراء
مقيل ندمان بل مغنى حمائم بل ... كناس آرام بل أفناء درماء