قديمة العهد هزتها الصبا فصبت ... فهي العجوز تهادى هدى مرهاء
لا يدرك الطرف أقصاها على كلل ... حتى تعود له لحظاً لحولاء
وصوت بلبلها الراقي ذرا غصن ... في حلة من دمقدس الريش دكناء
يقرع ناقوس ديري على شرف ... مسبح في سواد الليل دعاء
والقصيدة - وتقع في أكثر من ستين بيتاً على هذا النسق - وصفية عاطفية. لم يقتصر الوصف فيها على الناحية الحسية فحسب بل خلع الشاعر على سرحته ضروباً من الاحساسات النفسية والانفعالات العاطفية. فكما وصف ارتفاعها وكلا البصر دونه، ونشأتها بين خمائل الروض، ورضاعها من النميرين: النيل والأنواء، وأغصانها وما فيها من لين، وأزهارها وما بها من وضاءة، وظلها وماله من وروف؛ وكما وصف تصفيق الموج من تحتها وترقرقه، وخرير النهر إليها وجيشه، وصفحة مائه وصفاءها، إلى غير ذلك، نسب إليها ألواناً من الأوصاف المعنوية، فنورها يبسم، وظلها يطب من القيظ، ويشفى من داء الهجير، وقلبها لم تنل منه غير السراء، إلى غير ذلك. وقد وصفها بمعنويين متناقضين، اقتضى كل منهما المقام، أحدهما أنها تصبو كما تصبو العجوز فقال (قديمة العهد هزتها الصبا فصبت، فهي العجوز. . . الخ). وشأن الصابية امتلاء القلب بالشجو، وترنح العطف من الهوى. وبخاصة إذا هبت الصبا وانية رفيقة، فإنها تبعث في النفس الولوع، وتثير فيها الذكريات. ثم عاد الشاعر ففي عن سرحته صبوها وامتلاء قلبها، وذلك حينما راح يوازن بين ما في نفسها وما في نفسه، وبين ما تحتمله في ضلوعها، وما يئوده بين حناياه، فبدت له حسناء خالية الفؤاد من الهوى. والحسناء إذا وثقت بجمالها واطمأنت إليه، ولم يعبث الحب بقلبها ولم يتسلم زمامه، استطاعت بدورها أن تعبث بالقلوب، وأن تسخر من المحبين! وهكذا استطاعت سرحة ابن مكانس أن تتهكم به، وأن تميل إلى سواه، وأن تبعث في فؤاده الغيرة. قال:
خلية حين أحنيت الضلوع على ... نار لشجوي بها لا حب لمياء
تهكمت بي فما أحنت أضالعها ... على الهواء وأحنتها على الماء
ويمتاز ابن مكانس في قصيدته هذه بأنه عنى بوصف سرحته هذا الوصف الحسي والمعنوي، وعنى بوصف ملابسها من الحوادث اللصيقة بها، وما دار حولها من المرائي