أرفع درجات الحياة التي تنتمي فيها الحقائق المتناقضة فتستعذب النفس الألم في سبيل الإنسانية، وتسعد بالحرمان في سبيل الخير، وهكذا يتعادل السرور والألم، ويصبحان حقيقة واحدة في حب الإنسانية، كما تتساوى المتعة والحرمان في فعل الخير. وحين تبلغ النفس هذه المرتبة من السمو تكون قد تحررت تحريراً تاماً من كل ما يتصل بالحياة الدنيوية، ووعت أن هناك وجوداً أكبر خارجاً عن وجودها، فتعرف الحقيقة الخالدة، حقيقة وحدة الكون الشامل الذي يتجلى الله في جميع أجزائه.
فالدين والعلم والفن والعمل الخير كلها وسائل طيبة تحقق الذات، وعلى الهندوكي أن يختار منها الطريق التي تلائم مزاجه ويسلكها، فإنه حتما سيصل إلى غايته الدينية إذا كانت بواعث سلوكه فاضلة، لا تفسد على النفس سعيها إلى الكمال، أو تحجب عنها معرفة الله الموجود في أعماقها. وإذا حاولنا أن نبحث عن الشخصيات التي سلكت هذه الطرق وحققت ذاتها، فإنه من الصعب أن نجدها خارج مواطن طاغور نفسه. إن زهاد الهند القدماء يمثلون لنا بلا شك تلك الشخصية التقية الورعة الصالحة الخيرة، التي تتحمل طواعية آلام الجسم وعذاب النفس تطهيراً للنفس، وإعداداً لإفنائها في الله الذي يوجد في قرارها وفي جميع المخلوقات. أما عن شخصية العالم الباحث عن القوانين الذي نجح في تحقيق ذاته فليس له وجود. وأحسب أن طاغور قد تصور العلم على ما يجب أن يكون عليه، لا كما يوجد بيننا الآن، لأنه يرى أن سبب كلف العلماء بكشف قوانين الطبيعة، إما أن يرجع لمجرد فضول علمي يرغب في معرفة سير أحداث الطبيعة وتطورها والوقوف عند حد هذه المعرفة بدون محاولة التدرج منها إلى حقيقة اتحاد الوجود الشامل، وإما أن يرجع لشغفهم بفرض سيادتهم على الطبيعة، فيسيئون الاستفادة من القوانين الطبيعية، ويسخرونها في اختراع آلات الحرب والتدمير والتخريب التي تنشر الخوف والقلق في النفوس، بينما تتمثل لنا شخصية الفنان في طاغور نفسه، لأن كتاباته لا تتناول غير ما يبدو في الكون من جمال، أو ما تتصف به الروح من طهارة الخصال، فتغرق قارئها في عالم روحي يحوطه الجمال من كل جانب، وتنشر في نفسه الأمن والسلام، وتحثه على قصد الخير وبلوغ الكمال. وإذا بحثنا أخيراً عن شخص حقق ذاته عن طريق العمل الصالح، فإننا لا نجد مشقة في تعيينه، فلقد اغتيل غدراً منذ مدة على أثر صوم أراد به حسم النزاع بين