وتذكرت، لقد عاشت بين جذوع الأشجار التي اكتسحها الفيضان وألقى بها على الضفة المرتفعة للغدير الصغير. وأضحت الجزيرة القاحلة لا يهتم أحد بارتيادها، وحتى بعد أن جف رملها ونبتت الحشائش على ضفاف الغدير، لم يزرها الصيادون، ولم يبق فيها إلا الهدوء والوحدة. ولم يعكر ذلك الصفو سوى تغريد البلابل على أشجار، إلى حفيف الأغصان وهي ترحب بالماء يجري تحت ضوء القمر فتهتف قائلة (وداعاً أيها الماء، إنه من الأفضل أن تجري من أن تظل ساكنا) فيرد عليها الماء مندفعاً نحو البحر (وداعاً، أنه خليق بك أن تظل ساكنا من أن تجري وتجري على الدوام).
وكانت الأرنب تستمع إليهما فتشعر بالسعادة تغمر كيانها. إنها أقوى من الأشجار وأسرع من الماء. لقد كان في استطاعتها أن تظل ساكنة، أو تظل جارية.
ومرت الشهور، وصمتت البلابل، وتساقطت أوراق الأشجار، وأصبحت الأرانب العجوز في سعادة وهدوء وطمأنينة لم تشعر بها من قبل. أما الآن، فقد أقبل ثانية ذلك الشبح الداكن المرعب. . . ولماذا يعود؟
ورقدت الأرنب منطوية على نفسها بين الأشجار، وعيناها تحدقان تحت جفونها المحمرة. كانت ترى أمامها امتداداً من الرمل اللامع تحت ضوء القمر، وقد أحاطت بالدغل تلك الساحة التي كانت مرتعاً وملهى لها زمن الصبى والشباب. كانت إذ ذاك تثب وتتعقب ظلها أو ترتقب حبيبها في الليالي التي يشرق فيها البدر. . .
وتحرك خيال على الرمل أعقبه آخر، فظنت الأرنب أنها تحلم. ولكن سرعان ما عاد الخيالان إلى الظهور وجعلا يلعبان ويمرحان لم يكن هناك أدنى شك في حقيقة وجودهما. كانا أرنبين. وعندئذ أدركت المخلوقة العجوز سبب عودة عدوها الداكن، ذلك الصياد، وظهوره في الجزيرة ليلا. وعندئذ انفجر بركان غضبها. لقد انتهكت رفيقاتها حرمة هذه الجزيرة، جزيرتها، واحتلتها دون وجه حق. . .
إن السن والوحدة قد خلقا منها مخلوقة متوحشة أنانية. وكان غضبها، عندما شاهدت الأرنبين أكثر من غضبها عند رؤيتها ذلك العدو الداكن. وعندما اندفعت من مخبئها وتحركت صوب الفضاء الرملي ورأت الأرنبين العاشقين، زاده حدة غضبها واشتد سعيره.
ولكن ذلك لم يحل بين العاشقين وبين اللهو والقفز والعدو. كانت الأنثى ممتلئة الجسم شفافة