فلا نجعل لهم من الصحو وقتاً نؤاخذهم فيه على الأقوال والأفعال، وإلا فقد أدت هذه المؤاخذة إلى الإطاحة برءوس مفكرة. وكتب التصوف مليئة بأخبار من استشهدوا في هذا الميدان. وكم يقع القارئ في حيرة شديدة حين يرى الصوفي العارف ينطق بما يعتبر بعيداً عن الحق، فيساق إلى مصرعه السريع ثم يأتي - بعد - من رجال الدين وأعلام الشريعة من يبرر قوله ويوجه مذهبه توجيهاً لا يخرج عن المنطق السديد - كما فعل الغزالي مع الحلاج مثلاً - فبأي جريرة إذن سفك هذا الدم، وكيف غاب هذا التأويل عمن أثاروا الغبار، وأيقظوا السيوف من الأغماد؟ الحق أنها حيرة شديدة أتلمس الخروج منها فلا أستطيع!!
إن التصوف محنة قبل أن يكون نعمة؛ فالعارف يكابد من الأهوال ما يقض المضجع ويسيل المدامع، وثم هو بعد ذلك يتهم في دينه، ويساق إلى حتفه الشياه!!
ولكن أي هول يكابد؟ لا يقدر ذلك غير من سار في الطريق بضع خطوات، فعرف كيف تحارب النفس، ويضطهد الجسد، وتندلع في القلب ألسنة اللهيب!!
إن الشاب في عنفوان قوته يصوم اليوم الواحد في ألم وامتعاض وما يكاد يسمع الآذان عند الغروب حتى يهجم كالليث على المائدة الحافلة بما لذ وطاب، فما يذر من شيء أتى عليه، وهؤلاء المساكين يصومون الأيام الطويلة ولا يفطرون بغير الماء وكسر يابسة من الخبز لا تقوى على تحطيمها الأنياب!!
إن الشاب الفني لا يتسلق الجبال إلا في وضح النهار، قوة مجندة مع رفقائه، وعدة مذخرة من الأسلحة الفاتكة، يتقي بها الهوام والسباع، وهؤلاء المساكين يسعون في حنوس الليل إلى التلال والهضاب فيتفكرون في ملكوت السموات والأرض فإذا حطمهم اللغوب، هجعوا قليلاً في الكهوف والمنارات!!