ولقد يجل عن اشتياقي ماؤه ... شرفاً فوا ظمئي للامع آله
فارتحت كثيراً لتواضعه، وكأني نسيت ما سلف من ادعائه، فأقبلت علي مطالعة ديوانه بلذة وشغف، ولا ريب فقد قام البيت الثاني من البيت الأول مقام الاستغفار من الذنب العظيم!!
وإذا تركنا ابن الفارض وانتقلنا إلى الشيخ الأكبر محي الدين نجده قد جال في ميدان الادعاء جولات خطيرة عاصفة، فقد عز عليه أن يفهم الناس أن النبي المرسل في درجة تفوق منزله الولي الواصل، فانبرى يوازن موازنة جريئة بين النبي والولي، ثم أعلن - في غير تريث - (أن الرسول لا يمتاز إلا بالتشريع، أما الولي فميزته الكبرى هي الاطلاع على أسرار الوجود). وهذا ادعاء أي ادعاء، ولكنه من شطحات القوم. وكم للصوفيين من مزالق محرجة؟! فهل تكون مفقودة لدى معشوقهم الحبيب؟!
إن الرسول قدوة مثل الناس، فكل ما صدر عنه من قول أو فعل أو تقرير، فنحن ملزمون بالتمسك به، أما الولي فليس من ذلك في كثير أو قليل، بل إن فريقاُ كبيراً من رجال الدين قد نصوا على وجوب التحفظ الشديد مع الأولياء، وخاصة بعد أن اتسعت هوة الخلاف في المسائل الكلامية، وانتشر على يد فريق من التصوفة القول بمبادئ غامضة لا تدركها الإفهام. ومهما يكن من شيء، فقد جعل رجال الشريعة للقوم حالتين: حالة الصحو، وحالة الغيبوبة؛ أما الأولى فهم ينطقون فيها بما يتفق مع الشريعة، لأن العارف مستيقظ منتبه، فهو مؤاخذ على كل ما يصدر منه كما تؤاخذ العامة سواء بسواء. وأما الحالة الثانية وتسمى بحالة السكر عند بعض الكاتبين، فلا يلام فيها الواصل على رأي، أو يؤاخذ بجريرة قول، لأنه غائب عن وعيه، وقد ستر إدراكه بغواش متلاحقة لا يعلم لها كنه. ويدركون أن أبا بكر الشبلي رضي الله عنه قد دخل على الجنيد ومعه زوجته، فأرادت أن تستتر عنه، فقال لها الجنيد: تمهلي تمهلي. . . فهو في حالة سكره لا يدرك شيئاً مما أمامه! وحين مضت مدة غير يسيره أشار لها بالاستتار حيث قد انتقل صاحبه من حال إلى حال. والمعلوم أن الجنيد رحمه الله من القلائل الذين يتمسكون بتعاليم الشريعة، فلا يرون أنفسهم من فصيلة أخرى ترتفع عن الناس، ومع ذلك فقد عرف صاحبه في خحالتيه، ومن عسى أن يكون أنبه منه في الإدراك والتمييز؟!
وكنت أوثر أن نعتبر المتصوفين في حالة واحدة مدى الحياة، وهي حالة الغيبوبة والسكر،