الغرامي هو الشعور، وهو هو في شتى الأوضاع لا يختلف توهجاً واشتعالاً عن المحبين، ومن هنا كانت لنتيجة واحدة عند الرجلين فالجنون والصرع والتيه قواسم مشتركة بين المدفنين، وإذا كان الأصمعي قد تجول في الصحاري الشاسعة، وتنقل بين الخيام النائية ليسمع آهاته المدلهين ويروي أشعار المتيمين من عشاق البادية، فلم يفته أن يدلف إلى الغارات السحيقة، ويتسلق القمم الشاهقة ويطوف بالبيت المعظم ليرى بعينيه دموع العارفين تتساقط، وزفرات الواصلين تتصاعد، علماً منه أن هؤلاء لا يقلون عن غيرهم، لذة حديث، وغرابة اتجاه، بل أن سائلاً سأله عن الحب فلن يسمعه كلام قيس أو عروة أجميل، بل ذكر له حديث هائم عارف، وقد مهد له بقصة طريفة وصف في آخرها الحب فقال:(جل أن يحد، وخفي أن يرى، كمن كمون النار في الأحشاء، إن قدحته أورى أو تركته توارى). وأمثال هذه النوادر لا تندرج تحت حصر، ولولا أنها وجدت ظلاً من الحقيقة ما كان لها هذا النصيب الوافر من الذيوع.
ولقد كان الهائمون الواصلون يعتزون بغرامهم الإلهي اعتزازاً يفوق كل اعتزاز، بل عدوه مفخرة عالية وميزة سامية لا تتاح إلا لمن حباه الله بالفضل الجزيل، وهذا صحيح لا اعتراض عليه، ولكن تنافس هؤلاء فيما بينهم قد دفعهم إلى مغالاة لا تسلم من الاعتراض، فكل محب واصل - إلا من عصم الله - قد ادعى في أكثر من مناسبة أنه فاق غيره في محبة ربه، ووصل إلى ما لم ينله أحد من الخلائق، فليت شعري ما مبلغ هذا الادعاء من الصحة؟ وهل يمكن للمدعي أن يقيم البينة على صحة ما يقول، وهو يرى الأنبياء والملائكة والسابقين من الإنس والجن، كل أولئك يتزاحمون بالمناكب ويتدافعون تدافعاً شديداً في مضمارهم الخطير، نعم قد يكون إخلاصه الزائد وتفانيه الشديد من عوامل هذا الادعاء، ولكن أليس من الحسن الجميل أن يتواضع في حبه ويتنازل عن كبريائه في مثل موقفه العظيم، فينال تقدير مريديه وسامعيه، بل ربماجرهم تواضعه إلى تقدير منزلته تقديراً يصل بها إلى ما يريد. وأذكر أني حين قرأت قول ابن الفارض:
كل من في حماك يهواك لكن ... أنا وحدي بكل من في حماكا
شعرت كأني محنق مغيظ، وما زلت أنقب وأحلل، وأنتقل من تعليل إلى تعليل حتى انتهيت إلى قوله: