أن صوت البوق الذي يرافق إنزال العلم كان قد حمل الجميع على التوقف بغتة، كأنهم كلهم جنود في ثكنة عسكرية يأتمرون بأوامر قائد يحترمونه كل الاحترام.
أكبرت عندئذ كل الإكبار قوة (التربية المدنية والوطنية) المتأصلة في نفوس هذا الشعب. . هذه التربية التي تحمل الناس على عدم التقصير في أداء واجب (الاحترام للعلم) حتى بين ضجيج مواكب التهريج!.
تذكرت هذه الواقعة - بعد ذلك - عدة مرات، في عدة مناسبات. . وكانت الأخيرة منها، قبل بضعة أيام:
كنت أسير مساء إلى (دار الرسالة) لزيارة صديقي الأستاذ أحمد حسن الزيات؛ وكنت قد وصلت إلى رأس ميدان عابدين عندما سمعت صوت بوق يدوي بنبرات متقطعة متساوقة. فالتفت حالاً إلى الثكنات فرأيت العلم المصري الذي يرفرف فوق سارية البناية المرتفعة أخذ ينزل بخطوات بطيئة، بصورة متساوقة مع نفخات البوق المتقطعة. . فوقفت هناك متوجهاً نحو الثكنات، لأمتع البصر بتتبع سير العلم باهتمام.
ولكن لاحظت بغتة أنني كن الوحيد في هذا الموقف وهذا الاهتمام. . وأما الذين كانوا يمرون مثلي في هذا الميدان، فكانوا يواصلون سيرهم وكلامهم وعملهم. . كأنه لم يكن هناك شيء يستحق الالتفاف: هنا جماعة من الأطفال يلعبون، وهناك طائفة من النساء يتصايحن؛ وفي كل الجهات عربات تمر ببطء، وسيارات تسير بسرعة؛ وعدد كبير من الناس يسيرون في اتجاهات مختلفة، ولا أحد منهم يلتفت إلى الثكنات، أو يرفع البصر إلى سارية العلم القائمة فوقها. . كأن كل ذلك لا يهمه أبداً ولا يخص أحداً غير الجيش وحده. .
وتذكرت عندئذ - بكل تفاصيله - ما كنت شاهدته في كورفو، أيام الكرنفال. . وتأملت - في أمل مرير - البون الشاسع بين ما حدث هنا وما حدث هناك.
بعد أن غاب العلم المصري عن عيني وانقطع صوت البوق عن أذني. . واصلت السير، أنا أقول في نفسي:
أن الوقوف لتحية العلم - بالصورة التي شرحتها آنفاً - قد يبدو للمرء - في الوهلة الأولى - كمظهر من المظاهر المادية التي لا تستحق الاهتمام. غير أن هذا الوقوف - في حقيقة الأمر - من الأعمال التي تتصل بتربية النفس اتصالاً وثيقاً؛ فأن هذه الوقفة التي تضطر