هذا هو الشاعر الإنساني، وشاعر الرمزية المطبوعة، وشاعر الصورة لوصفية الكاملة، فما هي الفجوات الشعرية التي يتعثر فيها الناقد ولا يستطيع المضي في طريقه دون أن يشير إليها؟.
هي فجوات قليلة ولكنها تعترض سالك الطريق على كل حال؛ يجدها في غلبة اللفتات الذهنية حين تخمد الومضات الروحية. . هناك في (اللحن المقهور):
ليتني كنت رياحاً ... تهتف الآباد منها
أنا أهواها ولكن ... رغم أنفي لم أكنها
أنظر إلى هذا التعبير النثري في قوله (رغم أنفي). . . ألا تشعرها هنا بشيء من الهبوط في الإحساس بالجو الشعري؟! إن هذا التعبير في رأيي يصلح لمقالة من المقالات لا لبيت من الأبيات.
واستمع له مرة أخرى حين يقول في (أغاني الرق):
يا سارق القوت نزعت الحجاب ... عن هذه اللقمة
ما كنت أدري فتكها بالرقاب ... أو أنها نقمة
والجوع أن صاح يصيح الخراب ... وتصعق الأمة
ألا توافقني على أن أفق الخيال في البيتين الأول والثاني أفقشاعر، وأنه في البيت الثالث أفق ناثر؟. . .
وأن القالب الشعري في قوله: (وتصعق الأمة) تصبغه صبغة الخطب المنبرية أكثر مما تصبغه صبغة التهويمات الروحية؟
واستمع له مرة ثالثة حين يهتف في (الرداء الأبيض):
عشقت فيك الحزن والسوادا ... وسمرة الخدين والحدادا
وجد ولا تحت الدجى تنادي ... يا ساقي الحب أغث لي وجدي
وهنا أيضاً يصدمك هذا التعبير (أغث لي وجدي). . . إنه هتاف ينبعث من قريحة اعتراها الهمود بعد وهج التوقد وحرارة الانفعال!
وتأمل مني هذه الصورة الوصفية لوقدة القيظ ولفح الهجير:
وألسنة بيض لهن رطانة ... بمثل لغاها كاهن لم يتمتم