فخليل مطران موسوعة حية متنقلة، جالسته كثيراً، فكان دائما صاحب زمام الحديث، يديره بمنة ويسرة، ويعرج به على القديم، ثم يقفز إلى الحديث بل إلى المستقبل البعيد. يعالج فنون الأدب والعلم علاج مقتدرا اصل قواعده، وثبت قدميه. ينظر إلى شؤون الحياة نظرة مشارفة مستلية فلا تبهره المظاهر، ولا يحول البهرج دون أن يبدي في الشأن حكما سديداً. فقد حلب الدهر أشطره، واستوعب غاية ما يستطيعه فرد من قراءة واطلاع وبحت. وخبر الناس طبقات طبقات، وشهد مواكب المدينة تتري أمامه، ورأى أصولا ثابتة تتداعى، وقواعد مؤثلة تهوى ونبلى، وجالس وطوف، وأقام فعرف الباقيات الخالدات من الفانيات الذاهبات. واستجمع هذه الذخيرة كلها في رأسه يرتد إليها في النظم، ويعود إليها في المحادثة، ويغرف منها كلما اشتهى قلمه الكتابة. . . وتلك شهوته المفضلة الأثيرة المقدمة على سواها
خليل مطران، وإن كان قد تسم قنة المجد، وارتقى درجات الرفعة السامقة وشهد ملوكا مضفون عليه من صنوف التقديرألوانا ورؤساء جمهوريات يتسابقون في تكريمه والاحتفاء به، وشعوبا تهتف باسمه وتردد شعره في كل صقع ناطق بالضاد، وأقطابا مرموقين يجتمعون من كل حدب ليسدوا له الثناء موفورا على مسمع من الحشود، وعلى ملأ من المعجبين. . . وإن كان مطران قد قرأ كتباً ألفت في إطرائه وتقريظه، ومقالات دبجت في مديحه والإشادة به، وشعرا أنشد في تمجيده وتخليده، غير أن هذه جميعا لم تفلح في بث روح الكبر في خليل مطران، ولم تجد في حمله على الشموخ والاستعلاء.
فقد ظل الخليل لأصدقائه خليلا، وأبقى على خلة الاتضاع والوداعة، حتى لقد افرط في هذا إفراطا تجاوز المدى. وكثيرا ما حدثني عن (تفاهته) وصغر شأنه وعجبه من أن يكون موضوع ذكر من قومه.
وهذا شعره يردد فيه آيات الدعة فيقول:
أخاف من سوء تأويل لرأبكم ... في الفضل لو قلت إني لست بالقمن