وكأنما أرادت السياسة البريطانية بذلك أن نلقى في روع كل مشاهد لهذه المنطقة هذا الشعور الباطني العجيب، وأن تتخذ من هذا دليل على الفصل بين شقي الوادي، جنوبه وشماله، مصره وسودانه وأن تجعل ذلك حجة لها على تحقيق ما تبغي، وإنقاذ ما تريد، وهي دائما تبنى آمالها وأمانيها الكواذب على الخواء، وتنسج العنكبوت ثم تمضي في طريقها الفاسد لتجعل من الظلم عدلا، ومن الباطل حقا، ومن الوهم واقعا محسوسا، ولكن هذا وإن جاز في شريعة الماضي، وقد سيطرت الغفلة على العقول، ورانت على القلوب، فلن يجوز في شريعة القرن الحاضر، وقد انتبهت الأذهان، وتفتحت العيون، واستيقظت القلوب، ونضج الوعي القومي، حتى أصبح الابن يشارك أباه في السياسة، ويعاونه على أداء الواجب، ويتقدمه إذا دعا الداعي ميدان الجهاد والنضال لا يعرف الوهن والضعف إلى نفسه سبيلا، وهو بما يلاقي من الهول والشدة، والحبس والتشريد، جد سيد وفخور!
ولئن غفل هذا الفريق المصري عن نبات هذه الدولة العجوز الشمطاء، اللعوب، ذات الناب الأزرق الاستعماري، الأصيل في المنكر والدس، والخداع والرياء، فلقد فهم الشعب على بكرة أبيه الآن حقيقة الموقف، وأدراك ما يساق إليه. . .
وفي بلاد النوبة مشروعات كثيرة نفذت بالفعل وآتت ثمارها أطيب ما تكون، وكان لها في نفوس النوبيين جميعا أجمل الأثر وهناك مشروعات كثيرة تنتظر التنفيذ والعقيدة السائدة أن كل مشروع يكون نصيبه الإهمال والنسيان، لا بد وأن يكون للإنجليز إصبع في وقفه وإهماله، لأنهم لا يريدون رفاهية هذه البلاد، ولا خيرها، لأنهم آخر من يستفيدون منها، ولأن القلب النوبي بكره الإنجليز كراهية تملك عليه نفسه من جميع نواحيها، ويدرك تمام الإدراك أن الانجليز عدو بلاده رقم (١) وأنه خطر ليس بعده خطر، وأنه شر في كل مكان يحل به، والسر في ذلك يجهله كثير من المصريين، والقليلون يعلمون أن الانجليز في وقت ما، حينما اشتدت بالنوبيين الأزمات، وضاقت بهم سبل العيش، بسبب التعلية الأخيرة. . . انتهز هؤلاء الإنجليز الأوغاد، عن طريق أذنابهم - الفرصة، وحاولوا اجتذاب قلوب النوبيين إليهم، وربطهم بعجلة الإمبراطورية بحجة صلتهم الوثيقة بأهل السودان، فأن مديرية دنقلة بأسرها تعتبر منطقة نوبية صحيحة من قديم الزمان، ولعب الذهب، وأعشى بربقه العيون، وامتدت الآمال والأماني الخوالب، ولكن قلوب النوبيين لم تتحرك لهذا