البريق، وعيونهم لم يعشها هذا اللمعان، وكان الجواب المفحم أنهم حراس النيل من فوق هذا القمم الشوامخ، التي تشبه عزة نفوسهم، ونيل أخلاقهم على الرغم من ضيق ذات اليد، والمبيت على الطوى في أغلب الأحيان.
وتلقى الإنجليز هذا الدرس القاسي، وعلموا أن الذهب ليس هو كل شئ، وإن سياستهم لم يكتب لها النجاح على طول الخط ولهذا أدركوا وطنية هؤلاء. . . الوطنية الحقة، التي لا يتم عنها كلام منمق معسول، ولا عبارات خلابة، ولا أحاديث مستفيضة ولا خطب حماسية، ولا مقالات تفيض بها أنهار الصحف والمجلات، وإنما هو شئ أسمى من هذا وأجل هو العمل والصبر والجلد، والإخلاص، وحب مصر والمصريين، واحترام القانون إلى حد يثير الدهشة والعجب، ويكفي أنه قد ينقضي العام بأسره دون أن تقع جناية في بلاد النوبة كلها على الرغم من امتدادها خمسين وثلاثمائة كيلو متر (فأين تجد هذه الوطنية الصادقة، والهدوء الجميل؟
لقد كان الإنجليز يريدون النوبيين على تشجيع الحركة الانفعالية عن مصر، التي أهملت أمرهم، ونسيتهم في قفارهم وصحاريهم) وبذل الإنجليز الوعود الخلابة لإحالة منطقة النوبة إلى جنة تجري من تحتها الأنهار، وأنفاذ جميع المشروعات الممكنة وغير الممكنة لتكون هذه البلاد حافلة بالثمار الناضجة، والزهور اليانعة. يتدفق على أهلها الخير من كل حدب وصوت، ولكنهم بحمد الله باءوا بالفشل، وكان نصيبهم الخذلان الأليم. . . ومن عجب أن أمر هذه المحاولة لم يكتب له الفضيحة كما يجب. وإنما ظل سرا لا يعرفه إلا القليلون من المصريين، لأن النوبيين لا يرون فيما فعلوا حكومة يستحون عليها المدح أو الثناء، بل هو الواجب الذي لا شكر عليه.
ومما يؤسف له أن كثيرا من الأخطاء تقع كل عام في الوزارات. . . الأخطاء الوطنية التي يحزن لها قلب الغيور فمن ذلك ما حدث معنا عام ١٩٤٦ بخصوص استمارات السفر إلى عنيبة، وجهل الموظف المختص بأمر هذه الاستمارات، وهل تكون من حق موظف عنيبة أم لا، وطال الأخذ والرد بيننا، وأخيرا صرف لنا استمارات إلى الشلال فحسب، لأنه يعتقد أن الشلال نهاية اقتصاصه، وأننا ملزمون أن نأخذ الاستمارات الباقية من منطقة قنا التعليمية، إذا كان في وسعها هي الأخرى أن تصرف استمارات أبعد من الشلال.