وإذا اغتفرنا لهذا الموظف هذه الغلطة، فهل نغتفر لموظف آخر بالوزارة نفسها غلطة أفظع وأعنف؟ لقد ذهب أحد الزملاء بعد تعيينه إلى وزارة المعارف ليأخذ استمارات سفره إلى عنيبة أيضا، وما كان أشد عجبه عند ما فاجأه الموظف المختص بطلب تقديم ترخيص للموافقة عليه من الجهات المختصة في مصلحة الحدود. فقال: لماذا؟ فأجاب الموظف: لأن عنيبة خارج الحدود المصرية، فلا بد من جواز السفر إليها؟!
وبهت الزميل، وحاول أن يفهم الموظف حقيقة الأمر، وأن عنيبة ليست خارج الحدود، ولكنه نظر إليه شذرا في شئ من التعالم المقيت، فلم يجد الزميل بدا من الرضوخ لما أراد، وقدم الطلب المراد، وأخذ مجراه، وانتقل من مكتب إلى مكتب، دون أن يفطن أحد إلى هذا الخطأ، حتى وصل إلى يد أحد الرؤساء بالوزارة، وكان رجلا ذكيا يعرف الكثير من عنيبة، فأمسك بالطلب، وأطال النظر فيه، وبدا الاستياء على وجهه، ثم نادى الموظف الذي أشار به، وافهمه حقيقة الأمر، وأتحفه بقسط كبير من اللوم والتعنيف، فما يجدر بموظف أن يجهل حقيقة عمله، وإن جهل حقيقة بلاده!
وأرمنا بلدة في بلاد النوبة بين توشكي وأبي سمبل، وحدث أن أرسل إليها أحد موظفي وزارة الصحة بعض الأوراق، الخاصة بطبيب المركز أي مركز عنيبة، بيد أن هذا الموظف كتب على الظرف (السودان) فذهبت الأوراق إلى السودان، ثم ردت إلى الوزارة مرة أخرى بعد ما كتب عليها موظف الحكومية السودانية أن هذه البلدة ليست في السودان وإنما هي في منطقة النوبة التابعة للحكومة المصرية واتبع هذه العبارة بمجموعة من علامات التعجب والاستفهام، التي معناها أننا معشر المصريين لا نعرف بلادنا).
هذه الأخطاء التي أسميها أخطاء وطنية، تقع في شتى الوزارات، ومختلف دور الحكومة كل عام، وهي إن أحزنت الوطني الغيور، فإنما بطرب لها المستعمر الغاصب. . . لأنه يرضيه أن يرى كل مصري منصرفا عن خير بلاده، ومصلحة أمته إلى لذاذاته ومسراته، ويسره جهل الموظفين بما لا يصح أن يجهلوه ويزيد في سعادته أن يرى القلق باديا في وجوه الموظفين في بلاد النوبة، ولهذا يتألم الإنجليز لعمران هذه المنطقة بالغ الألم، ويسوئهم أن تتجه الحكومة المصرية بالإصلاحات الشاملة في هذه البلاد، وبخاصة في هذه الأيام، لأن إصلاح منطقة النوبة يصل ما بين الإنجليز على اتساعها، ولكن الله سيحبط