للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولكن. . لأمر ما، رفض شيوخنا أن يعترفوا بالنقص ولغيرهم بالفضل، فآثروا السكوت والعزلة، وضربوا حول أنفسهم حاجزا حصينا، وأقاموا دون العالم سدا عالياً، لا ينفذ منه شعاع الفكر الحديث؛ وال يخترفه صدى المعرفة الحقة، لا يتقدمون ولا يتطورون، ولا يؤثرون ولا يتأثرون. . . وتلك طلائع الموت وبشائر الانحلال!

وهمس في أذني آخرون، يستحثونني في اللحاق بدار العلوم ويسبون لها من المزايا والفضائل ما عرفت وما لم اعرف، ومن يدري فقد لا أعرفه أبداً، لأنه ليس هناك، وإنما هو وليد التعصب الأصم، والخيال المغرض!. .

قالوا إنها مهذبة منظمة، مرتبة منسقة، سخية في المال، شهية في الطعام، لن تجد في دراستها تعبا ولا نصبا، ولا رهقا ولا وصبا، ووجدتني أدير ظهري مرة أخرى، فأنا عارف بما هناك.

قد تكون دار العلوم جميلة المبنى، لطيفة الموقع، نظيفة المظهر، لامعة البناء، فاخرة الرياش، ولكنها وا أسفاه أيضا! أزهرية التفكير، جامدة الشعور، لا تربى دراستها فنا، ول تعلى ذوقا، ولا ترهف حسا، ولا تنمي خيالاً، وإنما تنتج مدرسا صالحاً طيعاً، لحفظ القانون، ويجيد قواعد التربية، ويطبق منشورات الوزارة، ويحسن حفظ النظام في صفوف التلاميذ!. . .

لن أذهب إلى الأزهر، لأني سأكون أكثر من أستاذي علما، وأوسع ثقافة ومعرفة، فأنا أجيد لغة، وفي طريقي لإجادةالثانية، وهو لا يعرف إلا واحدة؛ وأنا ألم بالحركة الفكرية الحاضرة، ممثلة في الصحافة والإذاعة والمحاضرة، وهو ليس على شئ من ذاك. . . ولن أذهب إلى دار العلوم، لأنها مصنع مدرسين، وأنا لا أريد أن أصبح مدرسا ناجحا، بقدر ما أحرص على أن أكون مفكر حرا، ولا أحرص على شئ أكثر من حرصي على المعرفة الطليقة، التي لا تتأثر بالمذاهب والأشخاص، قدر تأثرها بالمنطق والإقناع!. .

ولا يعنيني من الحياة، إلا أن أعيش مع أولئك الخالدين من عباقرة الإنسانية في مختلف فنونها، مصورين ومثالين ونحاتين وأدباء وشعراء وموسيقين، ممن أعلوا من قيمة الإنسان وقدره وجعلوه جديرا بما أكرمه من الخالق من مزايا وصفات!. . .

بقيت كلية الآداب. . . وهي ثرية مترفة، نافعة مرهفة، تتأفف من أمثالي، من الغلابى في

<<  <  ج:
ص:  >  >>