وترى فوق التل أطلال كنيسة متهدمة تنعى حظها، وعن بعد مجرى نهر يترقرق بين القصب القصير؛ ففي تلك البلدة كنت أطوف ذات مساء، غريباً لا يعرفني أحد، لأن سائقي احتسى من الشراب أكثر مما يجب، وأبى قطعاً أن يواصل السير في ذلك الحلك الذي يغمر كل شيء.
والحق أني لست أذكر بعد اسم تلك البلدة، ولابد أنها تقع في ناحية من شمال المجر، فقد كان لها قنطرة مغطاة ودار بلدية ذات تماثيل للقديسين. وكان المطعم يسمى (الفندق الأرجواني) فذهبت أتمشى وحيداً غريباً، لأن سائقي أبى إلا أن يتسلل هذا المساء إلى مكان معين، وأذكر أني اخترقت حديقة صغيرة؛ وكان ثمة في المقهى الصغير محصلة تقرأ جريدة مصورة وهي تعتمد رأسها بيديها اللتين تغوصان في شعرها المتهدل ووراء باب مدهون باللون الأبيض يبدو فناء صغير يجلس فيه بعض الموظفين في صديريات سود وهم يدخنون (السيكار) إلى جانب الكؤوس الصغيرة؛ وكنت تسمع عن بعد شخصاً لعله طالب ينفخ في مزمار، ويغني تلك الأنشودة التي أولها:(إذا ما ابتعدت يا حبيبي) فقلت لنفسي: أجل توجد هنا أيضاً قلوب، وتوجد عواطف. . . وكان ذلك المساء ربيع، وربما كان الطالب المذكور قد رسب في الامتحان
وكانت الحديقة تمتد جانباً في قفر مطبق، يذكرك بقفر فناء المحكوم عليهم، ولابد أنها تكون في العصر منتجع الشيوخ، والضباط أو ذوي المعاشات، يفكرون في موتاهم أو في خليلاتهن القديمات؛ وكانت أشجار الصنوبر التي ترتفع فوق كل مقعد هزيلة محزنة كأنها حياة تصرمت وانطفأت في غمار السل؛ وكان يعمر هذه المقاعد أحذية عتيقة وسترات خرجت عن الثرى، وفوق الحصى الصغير الذي يغطي الممشى، ترسم العصى الباهتة التي ربما كانت في شبابها أيادي مظلات، خطوطاً ذاهلة
جلست على مقعد، وأخذت أفكر في شتى الأمور المحزنة: في نساء البلدة المسكينات اللاتي يرتدين أثواباً شديدة الحفيف ويبكين أكثر مما يضحكن، وفي الرجال الحزانى الذين يتجملون توقعاً لرؤية الأميرة الحسناء، ولن تأتي الأميرة قط، وفي المحادثات العقيمة التي تدور حول المائدة المقفرة أو في السرير المضني لمعرفة من هو أغنى إنسان في البلدة؟ وفي الشهر القادم ستأتي فرقة تمثيلية إلى (الفندق الأرجواني). . . وكثيراً ما يعرف