آه، تباً لحياة البلدة الصغيرة من حياة محزنة ذات رائحة كرائحة كسرات الخبز؛ وفيها يضج المرء بالضحك، ولكنه لا يستطيع أن يتناول فيها عشاءه. رباه، إن النساء هنا لا يتكلفن العناية بالنظافة، إذ يستوي ذلك عند الرجال.
شعرت أنني جد تعس، إذ قضى على أن أضيع وقتي في تلك النزهة الحقيرة المحزنة في البلدة الصغيرة، بدلاً من أن أجلس في مقهى فخم في مسكولك أو كأساً أو بودابست.
وكانت نغمات المزمار قد انقطعت حيناً، ولكنها عادت فدوت في الحديقة ذاتها. وإذن فقد كان الموسيقي الفتى موجوداً هنالك؛ وكان يقوم في ركن المكان إلى جانب الحاجز منزل عتيق له نوافذ صغيرة جداً، حتى لا يتسنى لغير رأس امرأة رشيق جداً وهزيل جداً أن يبرز منها
وكانت النجوم مزورة لا تسطع في ذلك المساء المظلم، وربما لم تك ثمة نجوم فوق تلك البلدة الموحشة. وكان هنالك مصباح زيتي ينشر ضوءه، ويتأمل ذات اليمين وذات الشمال وجلاً كأنما يخشى أن يقيم رجال المطافئ احتفالهم في تلك الليلة، وعلى بعد تقوم منازل ضيقة، لا يعمل ساكنوها بلا ريب شيئاً طول حياتهم إلا أن يقتصدوا وأن يبكوا، ولا يفكر نساؤها منذ العشرين في شيء سوى غسل الثياب
وكان صاحب المزمار يعزف أنشودة محزنة تحت الأشجار، ولا ريب أنه كان يقصد بعزفه ما وراء الحاجز، وربما كانت لأنشودته صبغة غرامية، وربما كان مؤلفها الشاعر المتوفى يحيى فيها القمر أو الصبية ذات العينين البراقتين؟ بيد أنني لم آنس فيها شيئاً غير الذلة والمرارة والفقر، والسلوة الوحيدة لفتى مسكين من القرية. . . رباه، وكنت قد عرفت يومئذ خادمات فرنسيات
وأخذت الموسيقى تنحدر إلى الأنين شيئاً فشيئاً، وكانت الأنشودة تضرع تضرع السائل، إلى سيدة لا تريد - وربما كانت أيضاً حمقاء آثمة - أن تصغي من فوق الحاجز إلى اعتراف فتى، لعله في ظروف أفضل كان يصلح أن يكون فارساً في ملعب، أو حاجباً في حانة ليلية في بودابست يلقى على الغانيات أجوبة ساخرة. . . كان المزمار يئن كالهرة المريضة، وكأنك ترى وجهاً شاحباً لفتى تعس لا يملك من المال ما يمكنه من التلهي بلعبة