وآنس من نفسه جمالاً في الصوت، وقدرة على التنغيم والتلحين، وهؤلاء - يمدحون - غالباً في المجالس الخاصة. والمدائح - في أكثر الأحايين - بالشعر الذي قيل في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمداحون يعتمدون اعتماداً كبيراً على (المجموعة النبهانية) كما يعتمد أهل الحِلات والبوادي على أشعار عامية هي غاية في جودة المعنى، وحسن الأداء، ولها تأثير قوي، يهز المشاعر، ويحرك العواطف، وأشهر هذه المجموعات (ديوان أبى شِريعة)، ولهذا الديوان ميزة أخرى، ذلك أنه وثيقة هامة لمن يريد أن يدرس اللهجات العامية في السودان، ونصيحتي لكل من يريد أن يعالج هذا البحث أن يدرس هذا الديوان، وأن يدرس (طبقات ود ضيف الله) فإن فيهما غناء أي غناء في هذه الناحية.
ولا يفوتني أن أذكر أن المداحين المحدثين قد أخذوا ينحرفون عن إنشاد المدائح النبوية، ولكنهم لم ينحرفوا كثيراً، فهم يتغنون بالقصائد التي تتصل بالعروبة والإسلام، كأندلسية شوقي، ورثاء حافظ للشيخ محمد عبده، ووقفة على طلل لغنيم، وإن كنت سمعت في أيام العيد مدحاً يتغنى بقصيدة المتنبي (من للجآزر في زي الرعابيب). وقد - والله - أجاد، لكنه سأني جداً حين طلبت إليه أن يسمعنا مدحة نبوية، فقال إنه لا يحفظ من هذا النوع شيئاً.
ذكرت هذا كله لأمهد به للحديث عن غرض من أغراض الشعر في السودان، هو غرض غالب ذائع، ذلك هو المدائح النبوية، وإذا كنت في مقالي السابق قد وصفت الشعراء بالتقليد للشعر القديم، فإني أقرر هنا أنهم أصلاء في هذا الغرض، وإن كل ما قالوه من شعر فيه، فهو استجابة لعواطفهم الدينية، واستجابة لبيئاتهم التي أسلفت الحديث عن مظاهر تدينها، ولم أقرأ لشاعر هنا لم يجعل أكثر شعره في المدائح، وإن منها لشعراء نظموا دواوين كاملة في هذا الغرض كديوان (روض الصفا في مدح المصطفى) للعالم الكبير الشيخ أبي القاسم.
ولم يفت الشعراء أن يتحدثون عن تدينهم، واعتصامهم بالله، وبعدهم عن طرق الغواية والهوى، وحبهم في مديح الرسول، وارتياحهم له، ويقول الشيخ الطيب أحمد هاشم:
إن سار غيري للهوان وللهوى ... فإلى العلا والمكرمات أسير
أو سامر الناس الحسان جهالة ... فسميري القرآن والتفسير