برودة الحائط. فجعل يخاطب نفسه قائلا (إن الجو بلا شك بارد جداً) ووقف لحظة، وبدون أن يشعر، وضع يده على كتفي والدته، ثم نفخ في أصابعه يدفئها، ثم جعل يبحث على قلنسوته فوق الفراش، وأخيراً خرج من القبو.
لقد كان يود أن يخرج مبكراً، لولا فزعه من الكلب الكبير الرابض عند باب الجيران. ونظر، فلم ير للكلب أثراً، فتابع سيره لا يلوي على شيء.
فليرحمنا الله. يا لها من بلدة! إنه لم ير مثلها من قبل. حقاً إنها لم تكن كبلدته. كان الليل حالك الظلام، ولم يكن في الطريق سوى مصباح واحد. وتوارى الناس في ديارهم، فلم يسمع إلا نباح الكلاب، مئات بل آلاف منها تنبح وتعوي طوال الليل. ولكنه كان في بلدته يستشعر الدفء ويجد ما يقتاب به. أما هنا. . . آه لو استطاع أن يجد ما يأكله. يا لها من جلبة وضوضاء! ويا لها من إضاءة! ويا لهؤلاء القوم وتلك المركبات، وهذا الصقيع! كان البخار يتصاعد في سعب من أفواه الجياد، وكانت حوافرها تصطدم في سيرها بالأحجار المغطاة بالثلوج المتراكمة. كم هو في حاجة إلى ما يسد غائلة جوعه. . . ولم يشعر الآن بالتعاسة. واقترب منه شرطي فتنكب طريقه وابتعد عنه.
ها هو ذا طريق آخر، وما أوسعه من طريق. كان الناس غادين رائحين، يصيحون ويهرولون ويندفعون والضوء! ذلك الضوء! ولكن. . ما هذا؟ إنها نافذة زجاجية كبيرة. ونظر خلالها فرأى شجرة طويلة من أشجار عيد الميلاد ممتدة حتى السقف، وقد تدلت منها مصابيح وأوراق مذهبة وتفاح ودمى صغيرة وجياد. وكان الأطفال في ملابسهم القشيبة يلهون ويمرحون، ويأكلون ويشربون. ثم ابتدأت فتاة ترقص مع أحد الصبية. وانسابت إلى أذنيه نغمات الموسيقى. ونظر وتعجب ثم ضحك. كانت أطرافه تؤلمه من البرد وأصابعه حمراء متصلبة، توجعه إذا ما حركها. وعندما تذكر ذلك، طفق يبكي، ثم عدا حتى انتهى به المطاف إلى نافذة أخرى شاهد من ورائها شجرة ثانية، ومنضدة حافلة بمختلف الحلوى وقد جلس حولها ثلاث سيدات يوزعن الحلوى على كل من يقصدنهن. وظل باب الدار مفتوحاً يدخله الكثيرون من الرجال والسيدات وزحف الصبي، ودفع الباب، ثم دلف إلى الغرفة. لقد صاحوا فيه ودفعوا به إلى الخارج. وأقبلت عليه سيدة تهرول ودستْ في يده قطعة من النقود، ثم فتحت له الباب ودفعته دفعاً إلى الطريق.