للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وقبل أن يحدد طاغور الهندي موقفه من حضارات الغرب والشرق، تأمل في تراث الحضارات الغربية القديمة فوجدها جميعاً قد نشأت بين جدران مدن أشادها الإنسان ليحمى نفسه من شر أخيه الإنسان، أو ليلقى حياته من هياج قوى الطبيعة. فمنعت هذه الجدران اتصال الشعوب بعضها ببعض، وعاقت اختلاط الثقافات وتمازجها، وقضت على تبادل الحب والمنفعة؛ كما حالت دون ائتلاف الإنسان بالطبيعة. فشب الغربي أنانياً، يوجه كل اهتمامه نحو نفسه، أو نحو بنى مدينته يفضلهم على القرباء عن وطنه الذين ينظر إليهم كمنافسين خطرين له ولأهله، يجب عليه أن يغتصب منهم كل ما يستطيع أن يغتصبه قبل أن يغتصبوا منه شيئاً مما يملك، ونشأ ساخطاً على الطبيعة، يخاف غضب قواها، ويتصورها عدواً له، يجب أن يحذره، ليحفظ كيانه من شدة تقلباتها، وليبعد خطر زوابعها عنه. فغرست هذه الحياة في نفوس الغربيين الأنانية وحب السيطرة، وصرفت نشاطهم إلى بسط نفوذهم على ما يحيط بهم من بلدان وشعوب، وصرفت أعمارهم لمكافحة الطبيعة والسيطرة عليها، ودفعتهم إلى أن يعتنوا عناية فائقة يشحذ مختلف مواهب الإنسان وملكاته سواء أكانت عقلية أم فنية، وبكسب مهارات صناعية، وقدرات يدوية لتساعدهم على محاربة الطبيعة، واستغلال الفقراء، وإذلال الشعوب الضعيفة. وكان ذلك كله سبباً في تفوق الغرب في العلوم والفنون، وعله تأسيسه حضارة استكملت نهضتها بتقدم البحث العلمى، وأختراع شتى الآلات الصناعية والأدوات الحربية التي تشهد بمقدرة الغربيين في الصناعة والحرب، وتدل على مهارتهم في توزيع مصنوعاتهم وترويجها في أسواق الأمم القريبة والبعيدة. فعادت عليهم بأرباح وفيرة وثروات طائلة أقنعتهم بأن تصريف أمور الحياة الأرضية لا تخضع إلا للمال. فآمن الغرب بأن المال هو الغاية القصوى، التي يجب أن يبذل الإنسان كل قواه في سبيل الإكثار منه، واعتبره الوثن الأوحد الجدير بالعبادة والتقديس.

فأعجب طاغور بنشاط الأمم الغربية، وقدر مساعيها الجليلة في تقدم العلوم والفنون، وسر من جدها الدائم في ترقية مستوى الحياة الإنسانية، ولكنه في الوقت نفسه سخط على أنانية الغرب وماديته، واشمأز من جربه القبيح وراء المال، واحتقر تفضيله الرذيل لبنى جنسه، وتقزز من استعماره المشين للشعوب الوديعة. لأن ذلك يخالف ما جبل عليه، ويغاير ما

<<  <  ج:
ص:  >  >>