للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ستار النافذة وتتساءل: لماذا لم يحضر؟ وما الذي حدث له؟ وعزمت على أن تسأل عنه في المستشفيات وفي أقسام البوليس إذا لم يعد بعد نصف ساعة. . . من يدري؟ فلعله راقد الآن في غيبوبة، أو ملقى في حفرة وقد سلبت منه ساعته اليدوية التي أهدتها له في عيد ميلاده الأخير والخمسة دولارات التي في جيبه، إن الكثير من الحوادث أحياناً ما يقع بين أطيب العائلات! وطاف بفكرها خاطر مزعج، إن على ولدها أن يعبر تلك الشوارع التي يجتازها سائقو السيارات، بعرباتهم غير مبالين بنظام المرور في ذلك الوقت المتأخر من الليل، وودت في تلك اللحظة لو أنها كانت تعيش في الريف بعيداً عن هذه السيارات. . .

وهبت واقفة وأقبلت على النافذة تتطلع إلى الشارع. يا إلهي ما هذا الضباب المخيم في الخارج؟ كان يتكاثف واستقر في صمت وسكون. وتركت طرفي الستارة، ثم زحفت داخل الأغطية في عصبية. وحاولت أن تسيطر على أعصابها، وأغمضت عينيها. ولكن. . سرعان ما فتحتهما عند سماعها صوت أقدام تدب خفيفاً على إفريز الشارع. حمدا لله ها هو ذا قد قدم.

وترددت الخطوات، ثم سمعت بابا يفتح. لم يكن باب شقتها بل كان باب جارها الكهل. ثم سمعت صوت سيارة الإسعاف فهبت من فراشها بقلب واجف، كانت تسمع رنين جرس السيارة كأنه العويل، وسرعان ما تلاشى الصوت تدريجياً واختفت السيارة.

وأقبلت على النافذة مرة أخرى وتطلعت، وإذا بولدها قادم صوب المنزل، يسير وقد انعكست عليه أنوار الشارع. نعم إنه هو ولا يمكنها أن تخطئ مشيته وحركاته. كانت ساقاه الطويلتان تخطران في خطوات متسعة نحو الدار، وكان يصفر لحناً شائعاً، وكتفاه يتمايلان في حرية وكأنه يقول: (إن هذا هو عالمي. . . أنني رجل وهذه دنياي). وشعرت بالغضب يعصف بها، ثم بالحزن ينتابها، كانت تود أن تشاركه ذلك الشعور بالحرية، ولكن قلقها عليه حال بينها وبين ذلك. وتبين لها حقه في السير، لا في هذا الشارع الذي تحفه الأشجار فحسب، بل في الأزقة المظلمة والأماكن الأخرى، بل حتى في الأركان المظلمة من عقله. إن وجوده معها تحت سقف واحد لا يعطيها الحق في امتلاكه امتلاكا كاملا. وليس لها حق مشاركته أفكاره إلا إذا اضطرتها الظروف اضطراراً. إن الرجل له حق العيش في عالمه الخاص. وإذا سمت أفكاره حتى وصلت إلى الأشجار التي يسير تحتها وإذا ما جعلته يصفر

<<  <  ج:
ص:  >  >>